“إن العرب هم الذين فتحوا لأوروبة ما كانت تجهله من عالم المعارف العلميّة والأدبية والفلسفيّة بتأثيرهم الثقافي، فكانوا ممدّنين لنا وأئمّة لنا ستة قرون “[1].
مقدمــة:
إنّ القول بأن المسلمين لا علاقة لهم بالعلم هو مجرد ادعاء لا يستند إلى حجة أو دليل. وليس تخلف المسلمين اليوم في ميدان العلوم والتقنية مدعاة لهذا الزعم، فبمجرد العودة إلى الماضي نتبين مدى إسهام العرب والمسلمين في نشأة العلوم وتطورها. ولقد شهد بذلك المنصفون من أهل الغرب أنفسهم، بل إن بعض المحاولات العلمية الناجحة اليوم ومساهمات البعض من علماء العرب والمسلمين في الاختراعات لدليل على قدرة العقل العربي على الأخذ بالعلم أمثال محمد عبيد التونسي الذي شارك في إنجاح وصول المركبة الفضائية “برسفيرنس” إلى المريخ في 23فيفري 2021، أو إطلاق مهندسين تونسيين لأول قمر صناعي تونسي إلى المريخ “تحدي واحد ” في 22 مارس 2021.
وقد اشتهر العديد من علمائنا في العالم العربي اليوم، نذكر منهم مصطفى شاهين فاروق الباز ومها عاشور ومصطفى السيد وأحمد زويل ومايكل عطية ومنير حسن نايفة ومحمد النشائي وشادية حبال وشارل العشي ومجدي يعقوب وغيرهم… وما أملى عليّ تناول هذا الموضوع رغم كثرة ما كتب فيه هو ضعف الوعي من قبل أجيال اليوم بالدور العلمي والحضاري الذي قدمه أجدادهم لهذا العالم، واعتبارهم أن تخلفنا هو أمر قدريّ وأصل ثابت وليس أمرًا عرضيّا، فبدأوا يتبرمون من تاريخهم وانتمائهم لهذه الحضارة خاصة في ظل التشويهات المتعمّدة التي يقوم بها أعداء الأمّة، عسى أن يكون هذا المقال سببًا في استرجاع الثقة بالنفس وكسر الحاجز النّفسي الذي ران على قلوب الكثيرين. فالدعاية السياسية ضدّ أمتنا بدأت منذ القديم إثر التدفق الصليبي على الشرق وما زالت مستمرة، هدفها طمس الدور الحضاري الهام الذي قام به العرب والمسلمون وبخس مجهوداتهم.
وإني على يقين راسخ من إمكانيّة استعادة دورنا الحضاري وإحياء مجدنا التّالد وتاريخنا الزاهر. فكما أسس أسلافنا للحضارة الإنسانية، فإننا اليوم قادرون إذا صدقت العزائم وخلصت النيات وقويت إرادة التحدي ورفع الملامة أن ننهض من جديد، وليس ذلك علينا بعزيز. ولعل في بعض محاولاتنا اليوم في مختلف مجالات العلوم وفي مراكز البحوث العلمية العالميّة ما يدل على هذا الاستعداد الكامن والقدرة على الفعل الحضاري المتميز. ولنا في تاريخنا المعاصر أسماء عديدة تمثل نواة لمؤسسات علميّة مستقبليّة متطورة.
القرآن والعلم:
ورد ذكر كلمة العلم ومشتقاتها في القرآن الكريم في 782 موضعًا. وقد ربط الإسلام بين العلم والدّين، إذ جعل العلم سببّا لفهم القرآن والكون معا، وجعله سبيلا لتسخير ما في الكون لصالح الإنسان. وهو وسيلة من وسائل الترقي الإيماني ومعرفة قدرة الخالق المبدع قال تعالى: “إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28] . وكان أول ما نزل من الوحي قوله تعالى: “اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5) [اقرأ] . ومدح العلماء وفضلهم على سائر الناس فقال: “قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ” [الزمر 10]. وقال تعالى: ” يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [المجادلة ،11] . وقد أقسم الله عز وجل بالقلم فقال :”ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ [القلم،1]. وقد روي في الأثر: “اطلبوا العلم ولو في الصين” و “اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد” وكذلك ” الحكمة ضالة المؤمن يأخذها ولا يبالي من أي وعاء خرجت”.
وقد وردت إشارات علمية عديدة في القرآن في أكثر من 1300آية شملت مجالات علمية مختلفة جعلت منه كتابا معجزًا، وكانت سببا في إسلام عدة علماء غربيين منها الإشارة إلى كروية الأرض “خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ ۖ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ ۖ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ۖ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُّسَمًّى ۗ أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ [الزمر،5]. وقوله في مسألة بداية الكون والانفجار الكبير :” أوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا ۖ وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ۖ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ [ الأنبياء،30 ]، أو مراحل تكوين الجنين …وكذلك تضمنت السنة النبوية أحاديث كثيرة تبين اليوم في العصر الحديث إعجازها العلمي، وخاصة في مسألة الطب النبوي كالحجامة.
إذن فلا تصادم بين العلم والدين في الإسلام، بل تكامل وتناسق. وقد حث الإسلام على النظر العلمي في الموجودات فقال “أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ * [الغاشية: 17: 22 ]، ويؤكد تاريخ المسلمين هذا الانسجام بين العلم والدين.
العرب والعلوم السابقة:
وقد شهد الكثير من الباحثين في الشرق والغرب على ما بلغته الحضارة الإسلامية من تطور علمي، إذ ساهمت في البناء الحضاري مساهمة فعالة، وبرع المسلمون في كل العلوم، كالفلك والطب والصيدلة والجغرافيا والرياضيات والميكانيكا وعلم الكيمياء وعلم الفيزياء وغير ذلك. وكان لهم دور مهم في هضم العلوم السابقة لهم وتطويرها وتصحيح ما ورد فيها من أخطاء والإضافة عليها “فقد صهروها في بوتقة حضارة طريفة طلعت على بني الإنسان بسبل نيرة لاستكشاف أسرار الكون واستكناه الحق “[2] . واطلعوا على تراث الأمم السابقة واستفادوا منه: “ففي حدود القرن التاسع أصبح تحت يد العرب مختلف العلوم، ولم يمض قرن حتى استوعبوا هذه العلوم استيعابا، وعمدوا في الوقت نفسه إلى تصحيحها، ثم إلى إضافة معارف جديدة لم يسبقهم إليها أحد”[3]. و”لقد طور العرب بتجاربهم وأبحاثهم العلمية ما أخذوه من مادة خام عن الإغريق وشكلوه تشكيلا جديدا”. فالعرب في الواقع هم الذين ابتدعوا طريقة البحث العلمي الحقّ القائم على التجربة”.[4]
“هكذا طلب هارون الرشيد بعد احتلاله لعمورية وأنقرة تسليم المخطوطات الإغريقية القديمة. وكما يستولي المنتصرون اليوم على المناجم والصناعات الحربية الهامة والأسلحة المدمرة مع مخترعيها، نرى المأمون بعد انتصاره على ميخائيل الثالث قيصر بيزنطة يطالب بتسليم أعمال الفلاسفة القدماء التي لم تتم ترجمتها بعد إلى العربية، ويعتبر ذلك بديلاً عن تعويضات الحرب ” [5]
وكان من أشهر رواد العلم عند المسلمين جابر بن حيان وأبو بكر الرازي وعمر الخيام والكندي وابن الهيثم والبيروني والخوارزمي وابن البيطار ونصير الدين الطوسي وابن النفيس وابن الشاطر والجاحظ وابن مسكويه وابن البصال وابن العوام والمجريطي والإدريسي وابن ماجد والقزويني والمسعودي والخازني وابن خلدون وغيرهم كثير .”فالعرب هم أصحاب الفضل في معرفة القرون الوسطى لعلوم الأقدمين، وإنّ جامعات الغرب لم تعرف لها مدة خمسة قرون موردا علميا سوى مؤلفاتهم ،وأنهم هم الذين مدّنوا أوروبا مادة وعقلا وأخلاقا”[6].
ومن أشهر علماء المسلمين حسب اختصاصاتهم نذكر:
في الكيمياء: جابر بن حيان ، محمد بن زكرياء الرازي (ت 925م)،
في الطب: محمد بن زكرياء الرازي، علي بن عباس المجوسي ق 4 هـ، ابن سينا، أبو القاسم الزهراوي، علي بن عيسى الكحال، ابن النفيس،حنين بن اسحق
في علم الصيدلة:البيروني، أبو جعفر الغافقي، ابن البيطار، موسى بن ميمون
في الجغرافيا: الإدريسي (ت 562 هـ)
في الرياضيات: عبد الله محمد بن موسى الخوارزمي (ت 846م) ، ثابت بن قرة الحرّاني (ت 901م)، الحسن بن الهيثم (ت 1038م)، عمر الخيام (ت 1123م)،
في علم الفلك : ابن عمر البلخي (ت 886م) ،أبوعلي البتاني (ت 929م)،أبو الريحاني البيروني ن ابن رشد
في الفيزياء : الحسن بن الهيثم
في الميكانيكا والآلات: أولاد موسى: محمد واحمد والحسن.
الفلسفة: الكندي ،الفارابي، ابن طفيل، ابن رشد ،ابن سينا ، ابن باجه ….
شهادات بعض الغربيين:
مواقف المنصفين من علماء الغرب واعترافاتهم بفضل العرب على الحضارة الغربية: نقلا عن كتاب “علماء العرب وما اعطوه للحضارة لقدري حافظ طوقان [7]:
من بين من اعترفوا بفضل العرب في العلوم فرديناند ووستنفلد والبارون كارا دى فو وكارل بروكلمان وماكس مايرهوف ودونالد كامبل وغاريسون وادوارد براون …
يقول ويدمان : “إن العرب أخذوا بعض النظريّات عن اليونان وفهموها جيّدًا وطبقوها على حالات كثيرة مختلفة ،ثم أنشأوا من ذلك نظريات جديدة وبحوثا مبتكرةً ،فهم بذلك قد أسدوا إلى العلم خدمات لا تقل عن الخدمات التي أتت من مجهودات نيوتن وفراداي ورنتجن” [8]
يقول بارتيلو ” لجابر بن حيان في الكيمياء ما لأرسطو طاليس في المنطق” [9]
يقول كاردانو:” الكندي من الأثني عشر عبقريّا الذين هم من الطراز الأول في الذكاء”[10].
ويقول برينولت في كتابه “تكوين الإنسانية” : “العلم هو أجلّ خدمة قدمتها الحضارة العربية إلى العالم الحديث…لذا فإن النتاج العلمي الغربي مدين بوجوده لعلماء العرب “[11].
ويقول جوناثان ليونز: “لقد ساعد العلم والفلسفة العربيان على إنقاذ العالم المسيحي من الجهل وهو الذي جعل فكرة الغرب بحد ذاتها ممكنة”.[12] ويقول كذلك في موضع آخر: “وقد تمتع العلماء العرب عمليّا باحتكار عالميّ للمعرفة في أقاصي الأرض لم ينازعهم فيه أحد حتّى عصر الاكتشافات الأوروبي”[13].
وأما زيغريد هونكه الكاتبة الألمانية في كتابها “شمس العرب تسطع على الغرب” فتذكر فضل العرب على الغرب من خلال ما قدمته من نماذج لعلماء برزوا في عدة علوم، منهم الخوارزمي في الرياضيات فتقول “لم يقتصر الخوارزمي على تعليم الغرب كتابة الأعداد والحساب، فقد تخطى تلك المرحلة إلى المعقد من مشاكل الرياضيات”[14]، وكتب الخوارزمي كتابين هامين في الرياضيات :”حساب الجبر والمقابلة” و” في علم المحاسبات”. وصارت كل الأمم تستخدم الأرقام العربية “ولولا تلك الأرقام لما وجد اليوم دليل تلفونات أو قائمة أسعار أو تقرير للبورصة”[15]. و”كان الخوارزمي أول من طور فن الحساب وجعل منه فنا صالحًا للاستعمال اليومي العملي”[16].
وقد بنى العرب المراصد الجوية، وأشهرها مرصد المأمون في بغداد ودمشق، ومراصد الخليفتين الفاطميين العزيز والحاكم بأمر الله في القاهرة، ومرصد عضد الدولة في حديقة قصره ببغداد، ومرصد ملكشاه السلجوقي في نيسابور شرق إيران، ومرصد مراغة العظيم ببغداد.
وقد اهتم العرب بالآلات الفلكية “فكان أن طوروها وزادوا عليها أشياء عديدة وقدموا اختراعات أخرى تشبه المعجزات مبتكرين بذلك آلات مختلفة للمراقبة والقياسات أخذها الغرب عنهم وبقي على استعماله لها أمدًا طويلاً”[17]، ونذكر في هذا المجال نصير الدين الطوسي والبتاني وابن يوني والزرقالي والفرغاني وثابت بن قرة.
وقد تعامل العرب مع العلوم السابقة بالبحث والنقد والتفنيد وتحقيق الأخطاء ودحضها “فمنذ البدء أدهشوا العالم بالحرية الموضوعية والشجاعة العلمية “[18] . ولقد صرح الفرنسي سيديو بما يلي “لقد توصل فلكيو بغداد في نهاية القرن العاشر إلى أقصى ما يمكن أن يتوصل إليه إنسان في رصد السماء وما دار فيها من كواكب ونجوم بالعين المجردة، دون اللجوء إلى عدسات مكبرة أو منظار ” [19].
وأما ابن الهيثم صاحب كتاب “المناظير” فقد وضع نظرية عن تحركات الكواكب في طبقات من الجو غير مرئية، ونقد نظريات إقليدس وبطليموس، واكتشف أن كل الأجسام السماوية بما فيها النجوم الثابتة لها أشعة خاصة ترسلها، ماعدا القمر الذي يأخذ نوره من نور الشمس” [20]. وهو نفسه الذي صحح نظريات إقليدس وبطليموس في الإبصار التي تقول إن العين المجردة هي التي ترسل أشعتها في اتجاه الأشياء التي تراها، فقال ابن الهيثم بخلاف ذلك: “ليس هنالك من أشعة تنطلق من العين لتحقق النظر، بل إن شكل الأشياء المرئية هي التي تعكس الأشعة على العين فتبصرها هذه الأخيرة بواسطة عدستها “[21] . وهو الذي اكتشف تمدد أشعة الضوء بخط مستقيم وانكسار الضوء، وفسر ظاهرة قوس قزح التي عجز عن تفسيرها أرسطو، واخترع أول نظارات للقراءة.
وقد سيطرت نظريات ابن الهيثم في علم الفيزياء وعلم البصريات على العلوم الأوروبية حتى أيامنا هذه. وقد كان كذلك متضلعا في علم الجبر، إذ تمكن من حل المعادلة الرياضية من الدرجة الرابعة. وأما الفرغاني فقد اكتشف انحراف زاوية مدار الشمس مع خط الاستواء، وأما البطروجي العالم الأندلسي فقد نقد نظرية بطليموس الشهيرة في انحراف الكواكب ودورانها الدائري، ومهد السبيل للعالم الغربي كوبرنيكوس. وأما الكندي فقد قام بقياس الزاوية بواسطة البركار وقياس الثقل النوعي للسوائل، وأجرى تجارب حول قوانين الانجذاب والسقوط.
ولقد أوجد العرب كذلك الحساب العشري بعد الفاصلة، فالفلكي المشهور الكاشي حوّل لأول مرة في التاريخ الكسور من بسط ومقام إلى الفاصل مثال 5 على عشرة حولها إلى 0.5 وهو ما جعل فن الحساب في متناول الجميع، ولولا هذا التحويل لما وجد علم اللوجاريتم. وكذلك يحتفظ علم الجبر اليوم بطابع عربي يتمثل في رمز X وهو تعبير أصله عربي واختصار لكلمة شيء التي تعبر عن أمر مجهول يجب البحث عنه ومختصر الشيء هو حرف ” ش ” ويقابله في الاسبانية X. ويعتبر العرب المؤسسين الحقيقيين لعلم المثلثات. و” لهذا يكون العرب قد خلقوا ميدانا فسيحا من العلوم كان من قبلهم مجهولا، صارت له أهمية كبرى في علم الفلك والإبحار ومسح الأراضي “[22]. وقد دخلت لفظة ” جيب ” sinus إلى رياضيات كل شعوب الأرض بواسطة ترجمة كتاب البتّاني.
وقد بلغ هذا التطور الرياضي ذروته على يد نصير الدين الطوسي، فوصل هذا العلم إلى درجة لم يبلغها الغرب أو يتجاوزها إلا بعد مرور مئات من السنين “[23]. وتقول كذلك زيغريد هونكه: “إن أرقام العرب وآلاتهم التي بلغوا بها حدا كبيرًا من الكمال وحسابهم وجبرهم وعلمهم في المثلثات الدائرية وبصرياتهم الدقيقة، كل ذلك أفضال عربية على الغرب ارتقت بأوروبا إلى مكانة مكنتها عن طريق اختراعاتها واكتشافاتها الخاصة من أن تتزعم العالم في ميادين العلوم الطبيعية منذ ذلك التاريخ حتى أيامنا هذه”[24].
وأمّا في ميدان الطب فقد اشتهر العرب بذلك شهرة واسعة لا مثيل لها وأبرزهم الرازي (ولد 250هـ الموفق لــ 864م). فقد أقام له الباريسيون نصبا في باحة القاعة الكبيرة في مدرسة الطب لديهم. “ومما يدل على تقدير الغربيين للطبّ العربي أن جامعة برنستون الأمريكية خصصت أفخم ناحية في أجمل أبنيتها لمآثر علم من أعلام الحضارة الخالدين الرازي”[25]، وقد وترك كتابًا بعنوان “الحاوي”، و”هو موسوعة في علم الطب، جمع فيه كل المعارف التي توصل إليها الطب منذ أيام أبوقراط حتى عصره” [26].
وقد طبع الكتاب في أوروبا أربعين مرة ما بين 1498 و 1866. تقول عنه زيغريد هونكه: “إنه الموسوعي الشمولي الذي استوعب كل معارف سالفيه في الطب وهضمها وقدمها للإنسانية أحسن تقديم، وهو المراقب المفكر والبحاثة الكيمياوي المستقل والمجرب الناجح…أضفى على الطب في عصره نظامًا رائعًا ووضوحًا يثير الإعجاب “[27]. و”ترجمت كتب الرّازي إلى اللاتينية في عهد الملك شارل الأول ملك صقلية بواسطة الطبيب اليهودي فراج بن سالم.”[28] ونشر المستشرق الروسي كاريموف كتاب سر الأسرار للرازي وترجمه إلى اللغة الروسية سنة 1957.ويعتبر الرّازي حسب عبد الرحمان بدوي “من أكبر الأطباء في تاريخ الطب في العالم “[29].
وأما ابن النفيس فهو أول من اكتشف أخطاء جالينوس ونقدها، وجاء بنظرية الدورة الدموية معتمدا التشريح طريقة في العمل والبحث. وله كتاب بعنوان “شرح تشريح القانون” ترجمه إلى اللاتينية طبيب إيطالي اسمه الباغو عام 1547م. وكتب عنه ماكس مايرهوف ويوسف شاخت وتشارلز.د.أوملّي.
وكان ابن سينا “أول من اكتشف التهابات غشاء الدماغ، ووضع أول وصف لتشخيص مرض تصلب الرّقبة والتهاب السحايا بشكل واضح يضاهي ما نقوم به في أيامنا هذه علما وصحّةً”.[30] ويعتبر كتابه “القانون” أهم الكتب في الطب. ويعتبر ابن سينا أعظم معلمي الغرب خلال سبعمائة سنة . و”باسم ابن سينا أيضا سار علم الجراحة في أوروبة يدًا بيد مع علم التشريح، ومهد السبيل للاكتشافات الطبية العظيمة التي حققها علم الطب الحديث” [31] .وهو من الكتب الأولى التي اعتمد عليها الغرب في سعيه وراء العلم في بدء نهضته”. وقد ظهر الكتاب مترجمًا في ميلانو في شهر فيفري عام 1473م”[32]، يقول عنه ابن أبي أصيبعة : “وكتاب القانون في الطب لابن سينا ظل العمدة المرجع في تعليم فن الطبّ حتى أواسط القرن السابع عشر في جامعات أوروبا “[33]. و”إن اكتشاف العدوى وأخطارها اعتبر من أعظم الفتوحات العلمية التي حققها الفكر العربي وحقق بواسطتها للإنسانية أكبر الخدمات التي لا تقدر بثمن “[34].
ولقد بلغ العرب في طب العيون شأوًا عظيمًا تفوقوا فيه على اليونان. وأول كتاب في هذا الموضوع “العشر مقالات عن العين” لإسحاق بن حنين، وهو يمثل مع مؤلفات علي بن عيسى وعمار من الموصل المرجع الأول لطب العيون في أوروبا حتى القرن الثامن عشر”[35]. ويعتبر علي بن عيسى الكحّال في كتابه “تذكرة الكحالين” أشهر كتاب في طب العيون عند العرب فقد تميز واشتهر باستخدامه للتخدير أثناء إجراء العمليات الجراحية في العين، وقد عني بدراسته “هرشبرج”، فترجم كتابه إلى اللغة الألمانية، وترجمه Wood. C.A إلى اللغة الانجليزية. وكتب أبو القاسم الزهراوي كتابه المعروف بــ” التصريف لمن عجز عن التأليف “جمع فيه كل تجاربه الطبية، وصار هذا الكتاب مرجعا مهما لأوروبا في علم الجراحة.
وأما في علم الميكانيكا فقد قال “ويظهر من كتاب حيل بن موسى بن شاكر الذي جمعوا فيه النظريات المتعلقة بعلم الميكانيكا القديمة أن أحمد بن موسى بن شاكر قد صنع نافورات مائية تصدر ألوانا متعددة وكذلك أجهزة ميكانيكية تدل على تعمقه في اختراع بعض التركيبات الميكانيكية التي استفادت منها الإنسانية في الزراعة والإضاءة وخدمة ربة المنزل وغيرها …” [36] وقد اشتهر كذلك الجزري(1136-1206م) بعلم الحيل وما يعرف بمضحة الجزري قال عنها الباحث المصري خالد عزب متحدثا عن المضخة في الفصل الثالث من كتابه: “هذا التصميم العبقري لم يكن معروفا لدى الرومان والإغريق وهو اختراع إسلامي صميم…وتُعدّ هذه المضخة الأصل الذي بنيت عليه جميع المضخات المتطورة في عصرنا الحاضر”[37].
وقد برع العرب في عدة علوم أخرى وكذلك في الأدب والفلسفة وعلم التاريخ وعلم الحيوان والحشرات وغير ذلك من العلوم، ويمكن للباحث التوسع في هذا المجال بالعودة إلى مختلف المراجع والمصادر التي تناولت هذا الموضوع.
هل مازالت النهضة العربية والإسلامية ممكنة؟
هل يمكن للعالم العربي الإسلامي تحقيق الحلم الذي طالما راود الكثير منذ أمد بعيد؟ فتتحقق النهضة الحضارية الشاملة، فنستعيد دورنا الحضاري الفعال، ونساهم في الفعل الإنساني الحضاري، ونصنع التاريخ فنتبوأ المكانة اللائقة بنا ونحقق الخيرية للإنسانية جمعاء. والسؤال الذي يطرح اليوم هل نمتلك إمكانات النهوض الحضاري من موارد بشرية وطبيعية؟ وكيف يمكن تفعيلها؟ وهل يكفي لتحقيق التقدم أن نمتلك الوسائل الكفيلة بذلك ونحن نعيش في عالم مفتوح تحكمه الصراعات والمنافسات غير النزيهة، ويغلب عليه قانون الغاب القوي فيه يأكل الضعيف؟
فكم من عقول عربية تم اغتيالها لأنها تمثل بذرة من بذور التقدم وآخرها اغتيال محمد الزواري في تونس في 15 ديسمبر 2016، ومن قبله طائفة من علماء الأمة تميزوا بأبحاثهم العلمية واختراعاتهم طالتهم يد الغدر الأجنبية، وخاصة الموساد الصهيونية أمثال سميرة موسى وجمال حمدان وعلي مصطفى وحسن كامل الصباح وسعيد السيد بدير وعبير عياش وسلوى حبيب، والقائمة طويلة حيث مثل هؤلاء البنية التحتية لتشييد مؤسسات علمية ستنهض بالعالم العربي والإسلامي. وإدراكا من الغرب لخطورة هذا الأمر عمل بالتعاون مع المخابرات الصهيونية على اغتيال العقل العربي وتدمير المؤسسات العلمية الناشئة بالعدوان المباشر كتدمير المفاعل النووي العراقي سنة 1981، وتدمير المفاعل النووي السوري في 6 سبتمبر2007 أو اجتياح العراق سنة 2003 وتدمير البنى التحتية وقتل العلماء بحجج واهية وشبيهه ما يحصل بسوريا وليبيا.
فكلما أحس الغرب بأننا بدأنا نمتلك أسرار التقنية ومقومات النهوض عمل بشتى الوسائل على إجهاض هذه التجارب بشتى الوسائل، وكلّما تحركت الشعوب في اتجاه الحرية الحقيقية وسعت إلى تحقيق الاستقلال الفعلي عن التبعية للغرب نشروا بيننا العملاء، ونصبوا علينا حكاما مستبدين لم ينتجوا غير مجتمعات ضعيفة ومتخلفة وفاقدة لإرادتها، واقتصاديات تابعة منهكة لم تحقق الاكتفاء الذاتي ولم توفر الاحتياجات الضرورية فعشنا وما زلنا تحت الوصاية الأجنبية. فنحن أمام ابتزاز متواصل وضغط لا يلين وتهديد خفي وعلني.
فلم تحقق الدولة الوطنية منذ الاستقلال التنمية المرجوة ولا التقدم المنشود ولا الاستقلال الحقيقي. وتمت هجرة الأدمغة إما هربًا من الاستبداد أو استجابة للإغراءات المادية التي يغدقها عليهم الغرب للاستئثار بمجهوداتهم وحرمان العالم العربي والإسلامي من خبراتهم وعلمهم، وإما هاجروا استجابة للدافع العلمي وحبّا للمعرفة والاستكشاف. “وتعدّ المنطقة العربية أكثر منطقة تحفز علماءها وكفاءاتها على الهجرة إلى الغرب وهم من المهندسين والأطباء وعلماء الذرة والفضاء، حيث أن أكبر نسبة مهاجرين للأدمغة في العالم من سكان المنطقة العربية، بـنسبة تقدر 50 بالمئة.” العرب ، أحمد جمال نشر في 27ديسمبر2016، العدد: 10496، ص6.
إن القول بأن التخلف قدرنا قول مغلوط يزرع اليأس في النفوس ويشكك في مقوماتنا الحضارية والعقدية فأنا أعتقد جازما بأننا قادرون على تحقيق الحلم إدا نفضنا عنا غبار الكسل والهوان والخمول وآمنا بذاتنا واسترجعنا ثقتنا بأنفسنا وقدسنا العمل قيمة عليا.
ولا بد من توفر الضمانات الكفيلة بتحقيق النهضة الحضارية، وخاصة الدفاعات الضرورية لحماية مؤسساتنا من التدمير وعقولنا من الاغتيال وأدمغتنا من الهجرة. فلا بد أن نحصن أنفسنا أولا، وكذلك من العوائق التي يجب التخلص منها هو الشعور بالهزيمة والقبول بها كأمر واقع، حيث دبّ الشك في تراثنا وفي معتقداتنا وتاريخنا بفعل الغزو الاستعماري والغزو الإعلامي والثقافي الذي استهدف تدمير الشخصية العربية المسلمة أخلاقيا وسلوكيا من خلال الأفلام والمسلسلات، ونشر ثقافة الانحلال والتهتك ،وتشويه التاريخ، وترذيل القيم، وخلق مجتمع استهلاكي همه إشباع حاجاته المادية والغريزية أكثر من اهتمامه بقضايا أمته ومصيره. فهذا التدمير الذي تعرض له العالم العربي والإسلامي مقصود وممنهج ومدروس منذ أمد.
فلا يخفى علينا أن الغرب مصر على إبقائنا في حالة الركود والسلبية والتبعية والهزيمة النفسية والعسكريّة. وهو يمارس سياسة الهيمنة بدافع الخوف من الانبعاث الحضاري الحقيقي حين تتوفر شروطه وتحين فرصته، وهو يعلم أن البذور اللازمة لهذه النهضة والوسائل المساعدة على ذلك متوفرة كلها في المنطقة العربية ثروة وطاقة وموارد بشرية وكفاءات علمية وعقيدة لم تحرف مازالت توجه الملايين وراسخة في قلوبهم.
إذن فلا بد من الثقة في النفس أولا والاعتقاد بأن الإسلام يمثل ثورة متواصلة ضد العبودية بكل أنواعها، كالتبعية والتخلف والجهل والفقر. فقد دعانا إلى الإعداد المادي والنفسي والمعنوي لمواجهة هذه الآفات، وأن نعد من القوة ما به نحفظ كياننا ونحمي أنفسنا إذ قال سبحانه ” وأَعِدُّواْ لَهُم مَّا ٱسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍۢ وَمِن رِّبَاطِ ٱلْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِۦ عَدُوَّ ٱللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَءَاخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ ٱللَّهُ يَعْلَمُهُمْ”[ الأنفال61 ]، وهي كل قوة مطلقا. فأين الإعداد المادي والعسكري والثقافي والعلمي؟!! والقوة المطلوبة تتأسس على العلم، ولذلك أعلى الإسلام من شأن العلم والعلماء، وحثنا على التأمل في الكون والسير في الأرض واستكشاف خيراتها وتوظيفها وتسخيرها.
الخاتمة
وإنني على يقين أننا قادرون إذا صدقت العزائم واجتمعت الجهود واتحدت القلوب على تحقيق هذا الحلم. ولعل الثورات العربية الحديثة تكون بداية الوعي والانتفاضة ضد الواقع الأليم والمسار الخاطئ الذي أخرنا قرونا وجلب لنا كل المآسي، فخسرنا وقتا ثمينا وجهودا ضاعت سدى، وفقدنا البوصلة ولم نتحسس هدفنا في ظل تلاطم أمواج الفتنة والنزاع والاستبداد. ولقد كتب الكثيرون ينظرون للنهضة أمثال مالك بن نبي وجاسم سلطان ومحمد إقبال وغيرهم كثير. فقد حان اليوم لتتعاضد جهود الأنظمة مع الشعوب ويتحقق التصالح بين الحاكم والمحكوم في ظل أنظمة ديمقراطية حقيقية تحترم الفرد وتقدر جهوده وتعيد الثقة إلى النفوس، وكذلك حان الوقت لننقي ثقافتنا وتراثنا من رواسب التخلف والأسطورة، ونجدد نظرتنا إلى هويتنا وتاريخنا، ونعيد دراسة واقعنا واستيعاب ما يدور حولنا لنبني مستقبلاً مشتركا كله أمل يقطع مع الراهن ويعيد إنتاج واقع جديد يقطع مع التخلف والتبعية.
[1] جوستاف لوبان، حضارة العرب، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، القاهرة،2012، ص 602.
[2] محمد السويسي، من أعمال محمد السويسي، المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون، ط،1،قرطاج2005،ص ص 361-363.
[3] السيد نفادي، الحضارة العربية الإسلامية، مجلة الفكر العربي، عدد63، بيروت،1991، ص 106.
[4] زيغريد هونكه، ص 401
[5] زيغريد هونكه، شمس العرب تسطع على الغرب، دار الجيل، ط8، بيروت،1993، ص 375.
[6] جوستاف لوبان، نفس المصدر السابق ،ص 31.
[7] قدري حافظ طوقان ، علماء العرب وما أعطوه للحضارة، دار الكتاب العربي، بيروت، د ت .
[8] نفس المصدر السابق، ص 35.
[9] نفس المصدر السابق، ص 97.
[10]نفس المصدر السابق، ص112.
[11] نقلا عن علي عبدالله الدفاع، روائع الحضارة العربية الإسلامية في العلوم، شبكة كتب الشيعة، مؤسسة الرسالة المملكة العربية السعودية د.ت.ص 33.
[12] جوناثان ليونز، كيف أسس العرب لحضارة الغرب، الدار العربية للعلوم ناشرون، مركز البابطين للترجمة، الكويت، د.ت.
[13] المرجع السابق نفسه، ص 180.
[14] زيغريد هونكه، شمس العرب تسطع على الغرب، دار الجيل، ط8، بيروت،1993، ص 75.
[15] المرجع السابق نفسه، ص 68.
[16] المرجع السابق نفسه، ص 158.
[17] المرجع السابق نفسه، ص 134.
[18] المرجع السابق نفسه، ص143.
[19] المرجع السابق نفسه، ص 145.
[20] المرجع السابق نفسه، ص147.
[21] المصدر السابق نفسه، ص 148.
[22] المرجع السابق، ص 161.
[23] المرجع السابق، ص 161.
[24] المرجع السابق، ص 163.
[25] قدري حافظ طوقان، علماء العرب وما أعطوه للحضارة، ص 18.
[26]زيغريد هونكه، ص 249.
[27] المرجع السابق نفسه، ص 257.
[28] ابن أبي أصيبعة، عيون الأنباء في طبقات الأطباء ج1،دار المعارف،ط1،مصر 1996.ص 81.
[29] عبد الرحمان بدوي، أبحاث المستشرقين في الكشف عن تاريخ العلوم عند العرب وتاثيره في اوروبا في العصر الوسيط وأوائل العصر الحديث، مجلة عالم الفكر،م9،العدد الأول، الكويت، 1978 ، ص 21.
[30] زيغريد هونكه، ص 271.
[31] المرجع السابق نفسه، ص 310.
[32] المرجع السابق نفسه، ص 314.
[33] أبي أصيبعة، عيون الأنباء في طبقات الأطباء ج1، دار المعارف، ط1، مصر 1996.ص 91.
[34] زيغريد هونكة، شمس العرب تسطع على الغرب، ص 276.
[35] المرجع السابق، ص 279.
[36]علي عبد الله الدفاع، روائع الحضارة العربية الإسلامية في العلوم، شبكة كتب الشيعة، مؤسسة الرسالة المملكة العربية السعودية د.ت. ص 116.
[37] خالد عزب، كيف واجهت الحضارة الإسلامية مشكلة المياه، المنظمة الإسلامية للتربية والثقافة والعلوم، الرباط ،2006.الفصل الثالث .
بقلم: أ. الأمين الكحلاوي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ