نظرات في سورة (ق)
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مُضِلَّ له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ مُحَمَّدًا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله، وأصحابه ومن سار على نهجهم، واهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله اتقوا الله تعالى بفعل الأوامر، واجتناب الزواجر؛ فإنَّ النَّجاةَ في التَّقْوَى، وإنَّ الجَنَّةَ ثَمَنُ التقوى: ﴿ وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [الزُّمر: 61]، ﴿ لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَعْدَ الله لا يُخْلِفُ اللهُ المِيعَادَ ﴾ [الزُّمر: 20].
أيها المؤمنون: يحوي كتابُ الله تعالى ما ينفع البشريَّة في الدنيا والآخرة؛ إذ هو كلامُ الله تعالى، الذي خلق العالمين وهو أعلم بهم، وبما يصلحهم وينفعهم، هو الهدى والنجاةُ والصراطُ المستقيم، لا يضل مَنْ تَمَسَّكَ به أبدًا، وهو العلمُ الصحيح الذي لا يجوز عليه الخطأ والتبديل، أنزله العليم الخبير، الذي يعلم ما كان وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون.
أُنزل قبل مئات السنين، كانت خلالها البشريةُ تتزود من أنواع العلوم والمعارف، وتطمح إلى مزيد من المكتشفات في هذا الكون الذي لا تنقضي أسرارُه وعجائبه؛ اجتهد الإنسان في الاكتشاف والاختراع، وإجراء التجارب والاختبارات، بغية المزيد من المعرفة؛ ويُلاحظ خلال هذه القرونِ الطوال عدمُ معارضةِ القرآنِ لحقيقةٍ علميةٍ ثابتة؛ بل كان ما يُكتشفُ وتثبت حقيقتُه يوجد له أحيانًا ما يدل عليه في كتاب الله تعالى تصريحًا أو تلميحًا، أو إشارة أو إيماء.
وكتاب هذا شأنه فالعناية به يجب أن تكون من أولويات المسلمين؛ إذ هو دستورهم ونظامهم، وفيه سعادتهم وهناؤهم؛ لذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر تلاوته وتدبُّرَهُ، ويلتزم العمل به.
كان صلى الله عليه وسلم يردد على المنبر يوم الجمعة سورة من أعظم سوره في فصولها وأخبارها، في تذكيرها ومواعظها، ما حفظتها صحابية إلا من كثرة ما ردَّدها النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر؛ حيث قالت أم هشامٍ بنتُ حارثة بن النعمان رضي الله عنها: "لقد كان تَنُّورنا وتَنُّور رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدًا سنتين، أو سنةً وبعض سنة، وما أخذت: ﴿ ق وَالقُرْآَنِ المَجِيدِ ﴾ [ق: 1] إلا عن لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها كل يوم جمعة على المنبر إذا خطب الناس"؛ أخرجه مسلم[1]، وفي حديث آخر أنه كان يقرؤها في صلاة العيد[2]، قال العلماء: "والقصدُ أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بهذه السورة في المجامع الكبار؛ كالعيد والجمع؛ لاشتمالها على ابتداء الخلق، والبعث والنشور والمعاد، والقيام والحساب، والجنة والنار، والثواب والعقاب، والترغيب والترهيب" [3]·
تبتدئ السورة بالقسم بهذا الكتاب المجيد، ثم تثني بعجب المشركين من بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم، وتكذيبهم بالبعث والنشور، ثم الجواب عن عجبهم: ﴿ ق وَالقُرْآَنِ المَجِيدِ * بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ * قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ * بَلْ كَذَّبُوا بِالحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ ﴾. [ق: 1-5].
ثم توجه الأنظار إلى نماذج من قدرة الله تعالى، ليس خلقُ الإنسان، وبعثُه إلا شيئًا قليلًا معها، وما خَلْقُ الإنسانِ بالنسبة لخلق السماوات وما فيها من أفلاكٍ ومصابيح !!
بنيان بلا عمد ليس فيه شقوق ولا فطور، وزينةٌ ليس لها مثيل، والأرض مدها، وأرساها بالجبال وزينها بالنبات، فأين من يتبصر ويعقل: ﴿ أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ * وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ* تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ ﴾ [ق: 6 - 8].
ألا يكفي ذلك دليلا على عظمة الله وقدرته على الخلقِ والبعثِ كرة أخرى؟ بلى والله. ومع ذلك يضرب مثلاً عظيمًا يشابه إحياء البشر بعد الموت: ﴿ وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ * رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الخُرُوجُ ﴾ [ق: 9 - 11].
نعم، إن إحياء الأرض بعد موتها دليلٌ على إحياء الإنسان بعد موته، ولكن طبيعة المصدودِ عن الحق العنادُ والاستكبار، فكما أنكر أهلُ مكة البعث فقد أنكره أقوام سابقون قبلهم وكذبوا المرسلين: ﴿ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ * وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ * وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ ﴾ [ق: 12- 14]. ووالله لو عقلوا لأدركوا أن مَنْ خلق أَوَّلاً قادرٌ على أن يعيد الخلق مرة أخرى، وهل يُعجزُ الخالقَ البعثُ وقد ابتدأ الخلق؟! حاشاه تعالى وتقدس: ﴿ أَفَعَيِينَا بِالخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ ﴾ [ق: 15].
تؤكدُ الآيات هذه الحقيقة، وتبينُ علمَ الله تعالى لأسرار هذه النفس البشرية، من هَمٍّ وإرادة وعَزْمٍ، ووساوسَ وخطرات. وهذا يدعو العبد إلى المراقبة الدائمة لله تعالى؛ لأنه أقربُ شيء إليه: ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوَرِيدِ ﴾ [ق: 16].
ومع ذلك وَكَّلَ الله به ملكين يَكْتُبَان خيره وشره: ﴿ إِذْ يَتَلَقَّى المُتَلَقِّيَانِ عَنِ اليَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ﴾ [ق: 17 - 18] إنها مراقبةٌ دائمة، واهتمامٌ بهذا العبد الضعيف. ملائكةٌ ليس لهم عمل إلا مراقبة أفعاله وكتابة أقواله، فأيُّ منزلةٍ أكرمَ اللهُ بها بني آدم؟ وأيُّ ابتلاء يواجهونه؟!
أيليق بعد هذا التكريم وتلك المراقبة الدائمة أن يطلقَ العبدُ لنفسه العنان تقترف سيئ الأعمال، وتنطق قبيحَ الألفاظ؟! كان الأجدرُ بالعبدِ إذا همَّ بالمعصية، وخلا بنفسه، وتوارى عن الأنظار، أن يراقبَ الله الذي هو أقربُ إليه من حبل الوريد، ويستحيي من الكرام الكاتبين.
إنه وإن استخفى عن البشر، وأوصد الأبواب، فإنَّ ملائِكَةَ الرحمن تنظر إليه، وتسجل عليه، وأين يستخفي من الله الذي: ﴿ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى ﴾ [طه:7 ]، ولكن كثيرًا من العُصَاة يغفلون عن ذلك، ولا يتنبهون له إلا في ساعةٍ لا ينفع فيها تنبه ولا ادكار. إنها ساعة يخافُها كلُّ عبد، ويهرب منها كلُّ حي؛ ولكن لا مهرب، وما قُدِّرَ لابد واقع ﴿ وَجَاءَتْ سَكْرَةُ المَوْتِ بِالحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ ﴾ [ق: 19].
يمكث العبد ما شاء الله أن يمكث في برزخه إلى ذلك اليوم العظيم، الذي يقومُ الناس فيه من قبورهم لله رب العالمين، وحينها ينتهي الظلم، ويقامُ العدل، ويحاسبُ العباد. تنصبُ الموازين، وتُنْشَرُ الدَّواوين، ويحضرُ الأشهاد، وتنطق الأركان.
ملائكةٌ تسوق العباد إلى المحشر، وملائكة تشهد عليهم؛ فيتنبه الغافل من غفلته، ويصبح نظره ثاقبًا يبصر كل شيء؛ ولكن بعد ماذا؟ بعد فواتِ الأوان: ﴿ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ اليَوْمَ حَدِيدٌ ﴾. [ق: 20 - 22].
يبدأ الشهودُ من الملائكة بإلقاء شهاداتهم، كلُّ عبدٍ يشهد عليه قرينه بعمله، فالمعرضُ والمكذب ليس له إلا جهنم؛ حيث شهدت عليه الشهود بالجحود فيأمر الله به إلى جهنم: ﴿ وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ * أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ * الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آَخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي العَذَابِ الشَّدِيدِ ﴾ [ق: 23 - 26]. فيُلقي العبدُ باللائمةِ على قرينه الشيطان الذي أغواه؛ لكن قرينه يتبرأُ منه ويخبر عن تأصل الضلال فيه؛ فيوقفُ اللهُ تلك المجادلة التي لا فائدة منها، ويتوعدُهم على ما اقترفوا من غير زيادة ولا ظلم؛ بل في غاية العدل والقسطاس المستقيم: ﴿ قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيد * قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالوَعِيدِ * مَا يُبَدَّلُ القَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ﴾ [ق: 27 - 29].
إنه يومُ الحقِّ والعدل، والقضاءِ والفصل، كم يفوزُ فيه من عبادٍ كانوا من ضعفاء الناس في الدنيا، وكم يندمُ فيه آخرون كانوا من جبابرة الأرض!! كم من عزيز في الدنيا يُذلُ في ذلك اليوم، وكم من ذليل حقير في الدنيا يكون عزيزًا في القيامة!! مَنْ سعد في ذلك اليوم فلن يشقى أبدًا ومن شَقِيَ فيه فلن يسعد أبدًا ذهب المال، وتلاشى الجاه، وَتَوَلَّى الأهلُ والأولاد، وَتَفَرَّقَ الأحباب والأقران، وزالت الفوارقُ بين الناس ولم يبق إلا العمل! نعم والله لا يَبْقَى إلا العَمَلُ أمام محكمة الرحمن التي لا ظلم فيها ولا طغيان: ﴿ مَا يُبَدَّلُ القَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلاًّمٍ لِلْعَبِيدِ ﴾ [ق: 29].
إنه موقفٌ كلما تصوَّره المؤمن صغرت الدنيا في عينيه؛ حتى لا تساوي شيئًا؛ فالعملَ العملَ لذلك اليوم، قبل أن يكون الندم، فلا ينفع حينئذٍ ندم.
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وسنة سيد المرسلين، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم....
الخطبة الثانية
الحمد لله وحده، أحمده وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله، وأصحابه إلى يوم الدين.
أما بعد: فلا يزالُ حديثُ السورة مُتَّصِلاً عن مشاهد ذلك اليوم العظيم الذي فيه: ﴿ تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللهِ شَدِيدٌ ﴾ [الحج: 2]، وكيف لايكون ذلك وجهنم يُلقى فيها أممٌ من البشر فلا تمتلئ بل تطلب المزيد: ﴿ يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ ﴾ [ق: 30].
وفي مقابل هؤلاء الظالمين تُعَدُّ الجنةُ لأهل التقوى الذين كانوا يخشون الله في الدنيا، الذين حفظوا أوامر الله فانقادوا لها، ونواهِيَه فجانبوها. راقبوا الله في الدنيا، وأقبلوا إليه منيبين؛ فكان جزاؤهم الجنة: ﴿ وَأُزْلِفَتِ الجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ ﴾ [ق:31 - 33]. يالَبُشْرَاهم في الآخرة، بينما كان الظالمون خائفين، يكونون هم آمنين سالمين، يطلبون في الجنَّة ما يشاؤون فلا يمنعون. يالفرحتهم حينما يقال لهم: ﴿ ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الخُلُودِ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ ﴾ [ق: 34 - 35].
ومع ما يجدون في الجنَّة من النَّعيم المقيم مِمَّا لا عَيْن رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بَشَرٍ، مع كل ذلك لهم مزيد، ما هو المزيد يا ترى؟ إنه تجلي الجبار تعالى وتقدَّس لهم؛ حتى ينظروا إلى وجهه الكريم، يتجلى لهم ويكلمهم، ويسألونه فيعطيهم سؤلهم، ويرضى عنهم.
الله أكبر، ما أكبره من فوز! وما أعظمه من مزيد! الجنةُ ورضى الرحمن، ورؤيةُ وجهه الكريم، أسأل الله تعالى أن يجعلنا من أهل الجنة، وأن يرزقنا النظر إلى وجهه الكريم، ويرضى عنا رضًى لا يسخط علينا بعده أبدًا، ويسعدنا سعادة لا نشقى بعدها أبدًا إنه سميع مجيب.
أيها الإخوة: تعود السورة مرة أخرى إلى التذكير بما حلَّ بالسابقين من هلاك لما كذبوا الرسل، وتبين قدرة الخالق سبحانه: ﴿ وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي البِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ * وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ ﴾ [ق: 36 - 38]. ومع ذلك كذب المكذبون، ولم يتذكروا أو يتعظوا؛ فجاء الأمر بالصبر على قولهم والاشتغال بالتسبيح في كل الأوقات.
وهكذا فإن المسلم المستمسك بدينه، الداعي إليه، إذا لاقى الاستهزاء والتكذيب وأصناف الأذى في الدين، فإنه مأمور أكثر من أي وقت بالصبر الجميل، وأن يهرع إلى الله تعالى بالتسبيح والذكر في كل وقت مع استحضار فناء الدنيا، وقرب الآخرة، وشدةِ الصيحة، وهولِ المحشر؛ فإن ذلك يسليه، ويقوي قلبه، ويزيدُ إيمانه، ويثبتُه أمام البلاء.
وكمْ يحتاج الملتزم بإسلامه، والداعي إلى الله تعالى، استحضار هذه الآيات المسلِّيات مع كثرة التسبيح والذكر في ظل هذا التآمر العالمي على الإسلام وأهله، ووصفهم بأقبح الأوصاف مع ذلة المسلمين وضعفهم: ﴿ فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الغُرُوبِ * وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ * وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ المُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ * يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الخُرُوجِ * إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا المَصِيرُ * يَوْمَ تَشَقَّقُ الأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ ﴾ [ق: 39 - 44].
ثم تعود السورة مرة أخرى إلى التذكير بالقرآن؛ لكي تقوم الحجة على الخلق: ﴿ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ ﴾ [ق: 45].
أسأل الله تعالى أن يرزقنا الاعتبار والتذكر، وتلاوة كتابه على الوجه الذي يرضيه عنا، وأن يجعلنا من المتدبرين العاملين بما فيه، إنه على كل شيء قدير، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه أجمعين.
[1] أخرجه مسلم في الجمعة باب تخفيف الصلاة والخطبة (873) واللفظ له، وأبو داود في الصلاة؛ باب الرجل يخطب على قوس (1100)، والنسائي في الجمعة؛ باب القراءة في الخطبة (3/ 107)، ووقع الخلاف بين العلماء هل كان يكتفي بقراءتها؟ وهل كان يقرؤها كاملة أم بعضها؟
قال الطيبي: "إن المراد أول السورة لا جميعها؛ لأنه - عليه الصلاة والسلام - لم يقرأ جميعها في الخطبة" أ.هـ. وقال القاري: "وفيه أنه لم يحفظ أنه - عليه الصلاة والسلام - كان يقرأ أولها في كل جمعة، وإلا لكانت قراءتها واجبة أو سنة مؤكدة؛ بل الظاهر أنه كان يقرأ في كل جمعة بعضها فحفظت الكل في الكل" أ.هـ. وتعقبهما ابن حجر المكي حيث قال: "يقرؤها كلها، وحَمْلُها على أول السورة صرف للنص عن ظاهره" أ.هـ. انظر: عون المعبود" (3/ 449) "وبذل المجهود" (6/ 100).
وقال الصنعاني: "وفيه دلالة لقراءة شيء من القرآن في الخطبة كما سبق، وقد قام الإجماع على عدم وجوب قراءة السورة المذكورة ولا بعضها في الخطبة، وكانت محافظته على هذه السورة اختيارًا منه لما هو الأحسن في الوعظ والتذكير" أ.هـ. "سبل السلام" (3/ 170 - 171)، وقال الشيخ ابن عثيمين: "والدليل على اشتراط قراءة الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ يوم الجمعة بـ ﴿ ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ ﴾ [ق: 1] يخطب بها؛ ولكن هذا ليس بدليل؛ لأن لدينا قاعدة في أصول الفقه، وهي: أن الفعل المجرد لا يدل على الوجوب" "الشرح الممتع" (5/ 71).
[2] كما في حديث عبيد بن عبدالله بن عتبة الذي أخرجه مالك في "الموطأ" (1/ 180)، ومسلم في العيدين باب ما يقرأ به في صلاة العيدين (891)، والترمذي في الصلاة باب ما جاء في القراءة في العيدين (534)، والنسائي في العيدين باب القراءة في العيدين بـ ﴿ ق ﴾ [ق: 1]، ﴿ اقْتَرَبَتِ ﴾ [القمر: 1] (3/ 183).
[3] هذا قول الحافظ ابن كثير في أول تفسيره سورة ﴿ ق ﴾ [ق: 1] (4/ 340)، ونحوه نقله النووي في شرحه على مسلم (6/ 229).
ملاحظة: تفسير هذه السورة مستفاد من تفاسير: "الطبري"، "والقرطبي"، "وابن كثير"، "والمحرر الوجيز" لابن عطية، "والتحرير والتنوير" لابن عاشور، "وتفسير السعدي".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ