الازهر الشريف قلعه الدين والحياة
بين مصر والجامع الأزهر سرد تاريخي مشترك لا يمكن لمن يخوض فيه فصل أحدهما عن الآخر، فقد وحدت أحداث التاريخ بين البلد والجامع، حتى بات جليا لمن يدرس التاريخ أن مصر هي الأجدر باحتضان هذا الجامع، وأن الأزهر وجد من أجل أن يكون قوة مصر الناعمة في جميع أنحاء العالم.
يمثل الجامع الأزهر حالة خاصة جدا بين كل الجوامع المنتشرة حول العالم، فهو ليس الأكبر حجما ولا الأقدم عمرا، مثلما أنه ليس الأشد فخامة وتزيينا لكنه بالتأكيد الأكثر تأثيرا ليس في مصر فقط وليس في الجانب الديني فقط وإنما يمتد تأثيره الى خارج حدود مصر وكذلك إلى كثير من الجوانب الحياتية.
احتضن الأزهر أول صلاة وكانت صلاة الجمعة في السابع من شهر رمضان المعظم من عام 972 ميلادية أي قبل ما يزيد على ألف واثنتين وخمسين سنة كاملة، ورغم أن بناءه لم يكن فكرة مصرية وإنما كان واحدا من إنجازات الدولة الفاطمية ذات الأصول المغاربية، إلا أنه تم تمصيره ذاتيا مثل كل شيء وكل شخص عاش في مصر على مدى التاريخ. وتاريخ الجامع الأزهر يختلط فيه الديني بالدنيوي بشكل لافت، حيث يمكن لمن يقرأ هذا التاريخ ملاحظة الدور الوطني البارز الذي لعبه الأزهر في الحفاظ على البلاد من التشوه الحضاري الذي تعرضت له دول أخرى عديدة خلال خضوعها للاستعمار الأجنبي، حين تمكن المستعمر من فرض ثقافته وأحيانا لغته على أهل البلاد الأصليين سعيا لضرب هويتهم الإسلامية والعربية.
لكن في مصر - ورغم توالي الحقب الاستعمارية منذ إنشاء الأزهر وحتى رحيل المحتل الإنجليزي عقب ثورة يوليو 1952 - نجح علماء الأزهر في قيادة المصريين للحفاظ على الهوية الإسلامية العربية في الثقافة واللغة وفرض عزلة إجبارية على المستعمر، ويعود الفضل إلى الأزهر ورجاله وعلمائه في وضع حدود واضحة وفاصلة بين المصريين وطبقة المستعمرين الأجنبية الحاكمة.
فمن ينسى دور الأزهر في قيادة المظاهرات الرافضة للاستعمار الفرنسي في نهايات القرن الثامن عشر، وهو الدور الوطني المشهود للجامع التاريخي وعلمائه الأفذاذ أمثال سلمان الجوسقي شيخ طائفة العميان، والشيخ أحمد الشرقاوى، والشيخ يوسف المصيلحى، وغيرهم من شيوخ المساجد الأزهريين الذين كانوا يبثون الدعوة إلى الثورة فى عظاتهم وخطبهم.
ومن ينسى دور علماء الأزهر في التصدي للاستعمار البريطاني ومحاولته التغلغل في النسيج المجتمعي المصري، بداية من الشيخ محمد عبده مرورا بالعديد من الشيوخ أو تلاميذهم ومنهم سعد زغلول نفسه صاحب المشروع الوطني الأبرز في النصف الأول من القرن العشرين والمتسبب في ثورة 1919، حيث كان أحد تلاميذ الإمام محمد عبده.
ومن التعبيرات الشهيرة التي تنطبق على الجامع الأبرز في العالمين العربي والإسلامي مقولة «الأزهر حياة» فلم يقتصر دور الجامع فقط على تقديم الوطنيين والعلماء أصحاب النزاهة، وإنما قدم عبر تاريخه الطويل شخصيات أثارت الجدل وهو أمر لا ينتقص من قيمة الأزهر بقدر ما يعكس قوة التنوع داخله، وهذه مفارقة مهمة تنفى إشارة البعض بشكل متكرر الى أن مناهج الأزهر تربي عقول طلابه على ما يعتبرونه تشددا ما، وذلك يعد من مظاهر التنوع في الأزهر الذي يعكس البيئة المرنة للمناهج الأزهرية.
فقد قدم الأزهر الإمام محمد عبده الذي عرف بشيخ التنوير والتحديث الأزهري، كما قدم عميد الأدب العربي د. طه حسين الذي وإن تحول لاحقا الى الجامعة الأهلية إلا أنه يظل من أبناء الأزهر، وقد كانت له مواقف متعددة شهدت خلافا حادا مع الأزهر مثلما حدث حين طبع كتابه «في الشعر الجاهلي» في منتصف عشرينيات القرن الماضي ما سبب ثورة عارمة بين العلماء والطلاب الأزهريين.
وعند الحديث عن قوة مصر الناعمة يقف الأزهر شامخا في القمة، مبتعدا بمسافات كبيرة عن كل أدوات القوة الناعمة الأخرى، فإذا كانت الدراما والإعلام قد نجحا في نشر «اللسان المصري» في كل الدول العربية فإن الأزهر بمفرده نجح في نشر ثقافة التمصير في العديد من دول العالم وفي مختلف القارات، وذلك بفضل استقبال الطلاب الوافدين من جميع أنحاء العالم والذين وصل عددهم في السنوات الأخيرة الى ما يقارب الخمسة وأربعين ألف طالب سنويا.
ولقياس فعالية قوة الأزهر الناعمة يكفي أن نعرف أن من بين خريجيه من تولوا مناصب قيادية في بلدانهم ومنهم هواري بومدين الرئيس الثاني لدولة الجزائر، ومأمون عبد القيوم الرئيس السابق لدولة المالديف، وبرهان الدين رباني الرئيس السابق لدولة أفغانستان بخلاف العشرات من الوزراء والمفتين في العديد من الدول الإسلامية التي تتحدث العربية أوالتي لا تجيدها، وهنا يتفوق الأزهر على بقية أدوات القوة الناعمة في وصوله الى قلوب غير المتحدثين بالعربية.