غَزّة.. قصة مدينة الملوك التي أرادها الجميع
كان ملوك مصر، من أوائل ملوك التاريخ الذين دخلوا غزة، حيث دخلها نحو خمسة عشر ملكاً فرعونياً
تعتبر مدينة "غزة" الفلسطينية، من أقدم مدن التاريخ، وقاتلت، وتقاتل فيها وعليها ولأجلها، على وجه التقريب، جميع جيوش العالم القديم، فعبرتها أمم، ودخلها ملوك أكثر من أي مدينة أخرى بحجمها، في ساحل الشام، وأصبحت أرضها، مركز تلاقح حضارات ولغات وثقافات، لعل بعضها لا يزال مستعملاً، إلى الآن، بحسب مصنفات تاريخية عديدة.
وعلى الرغم من صغر الحجم الجغرافي لغزة، والتي تحمل هذا الاسم، منذ عشرت القرون، إلا أنها كانت مقصد جيوش وعبور وإقامة الملوك. فهي تقود إلى أفريقيا، ومنها يتم الدخول إلى مصر، وتعتبر بوابة العرب القديمة على البحر المتوسط.
وبحسب مؤرخين فلسطينيين، اعتمدوا في تأريخهم لغزة، على أهم كتب التاريخ العربي والإسلامي والعالمي، كمعجم البلدان، لياقوت الحموي، وخطط الشام، لمحمد كرد علي، وفتوح البلدان، للبلاذري، وفتوح الشام، للواقدي، والمحفوظات الملكية المصرية، والعرب قبل الإسلام، لجورجي زيدان، والسلوك لمعرفة الملوك، للمقريزي، وتاريخ مدينة غزة، لإم. أي. ماير، وكتاب غزة، للفرنسي شارلز كليرمونت جانيي، ومؤلفات عديدة ذات صلة بتاريخ غزة، باللغات العربية والانجليزية والفرنسية، فإن العرب والمصريين، كانوا أقدم الوافدين إلى غزة، وأنه قد ورد اسم غزة، في ألواح تل العمارنة الفرعوني، بما يشبه اسمها الحالي: هازاتي، أو عزاتي، أو غزاتو، كما قال مؤرخ فلسطين الأشهر، في العصر الحديث، عارف العارف، بكتابه عن تاريخ المدينة.
ملوك مصر الذين دخلوها
وكان ملوك مصر، من أوائل ملوك التاريخ الذين دخلوا غزة، حيث دخلها نحو خمسة عشر ملكاً فرعونياً، بدءاً من عام 3235، قبل الميلاد، وانتهاء بعام 664 قبل الميلاد.
ومن أشهر ملوك مصر الذين دخلوا غزة، آحمس، عام 1573، قبل الميلاد، وتحوتمس الأول، عام 1539، ق.م، وتوت عنخ أمون، عام 1351، ق.م، ورعمسيس الثالث، عام 1195، قبل الميلاد.
وبحسب مؤرخي الشرق القديم، فإن وقوع غزة، على ثلاث واجهات، هي مصر، والجزيرة العربية، والبحر المتوسط، جعلها محط أنظار ملوك وجيوش العالم القديم، فمرت فترة طويلة جدا، كانت فيها، غزة، إحدى أهم بقاع الأرض، حرباً واحتلالاً وصراعات مسلحة. فمن أراد احتلال مصر، عليه العبور بريا من غزة، أما إذا أراد المصريون ردّ العدوان، فيعبرون غزة، بعد احتلالها وتأمينها، ثم المضي قدما إلى بر الشام وصولاً إلى الأناضول التركية، حالياً.
ملوك الآشوريين والبابليين والفرس
ومن ملوك مصر، إلى ملوك آشور. فقد احتل الآشوريون غزة، بقوات عسكرية ضخمة يقودها ملكهم تيغلات بلازر، عام 734، قبل الميلاد. ثم عاود الملك الآشوري، سرجون، احتلال غزة عام 720 ق.م. ويرى الإخباريون العرب والمسلمون والغربيون، بأن احتلال غزة، من قبل ملوك الآشوريين، لم يكن بحد ذاته، رغبة في الهيمنة على تلك المدينة الصغيرة، فحسب، بل لأنهم من خلال احتلال غزة، يهدفون للقفز إلى الحبشة وليبيا ومصر وكذلك السيطرة على حركة الملاحة في البحرين الأحمر والأبيض.
ملك آخر، أغوته غزة، بمكانتها الجغرافية والسياسية والتاريخية، هو نبوخذ البابلي، واحتل غزة سنة 568 قبل الميلاد. ثم جاء الفرس واحتلوها، في عام 525 ق.م، بقيادة الملك الفارسي قمبيز الذي كان يهدف من هذا الاحتلال، غزو مصر.
ويقول المؤرخ الفلسطيني عارف العارف في "تاريخ غزة"، إن قرية "جباليا" الواقعة على مسافة ميلين من غزة شمالاً، أكثر سكانها "إن لم يكونوا كلّهم" من "بقايا الفرس" مستشهداً على ذلك، بـ"لهجة" أهل تلك القرية، و"سحنة" أهلها، ويقول: "إنهم وإن كانوا يتكلمون اللغة العربية، إلا أنهم يمطّون الكلام، بشكل لا يدع مجالاً للريب، بأنهم من أصل فارسي".
صلاح الدين الأيوبي وملوك روما واليونان
ومن الملوك الذين دخلوا غزة، الاسكندر المقدوني الأكبر الذي احتلها عام 332 قبل الميلاد، ثم قام بإحضار عدد كبير من اليونانيين للإقامة فيها، إلى أن احتلها الرومان سنة 96 قبل الميلاد، وزارها الامبراطور أوريليوس هادريانوس، أكثر من مرة، ونقش اسم غزة، على مسكوكات نقدية حملت اسمه.
ويشار إلى أن من الأباطرة الذين عاشوا في غزة، واتخذوها مسكنا لهم، الامبراطور غورديانوس الثالث عام 238 للميلاد، وكان مشهورا بتعلقه وشغفه بغزة التي استوطنها لعدة سنوات.
وفتح المسلمون غزة، عام 13 للهجرة، وتعتبر أول مدينة فتحها المسلمون في ديار فلسطين. ومنذ ذلك التاريخ، يرى مؤرخون أن غزة أصبحت عربية مسلمة، بعدما كانت مسيحية في عهد الدولة الرومانية، خاصة شقها البيزنطي. وقد كتب لها الاستقرار بُعيد الفتح الإسلامي فترة طويلة، إلى أن حلت الحروب الصليبية، فتركت أثرها العميق على أبناء الأديان السماوية، في المنطقة.
ومن الملوك الذين دخلوا غزة، من المسلمين، صلاح الدين الأيوبي الذي عبرها مرتين، الأولى عندما سيطر على مصر، فأغار على غزة عام 1170 للميلاد 566 للهجرة، والثانية، بعد معركة حطين، فاحتل غزة عام 1187 للميلاد 587 للهجرة.
والملك ريتشارد قلب الأسد، من الملوك الذين دخلوا غزة، فاحتلها عام 1191 للميلاد، وبسبب الصراع العنيف حول تلك المدينة، عقد صلاح الدين الأيوبي وقلب الأسد، معاهدة في عام 1193م، اتفق فيه الطرفان على تجريد غزة من حصونها.
وانفردت بتقويم خاص: التقويم الغزّي
ووصلت غزة من الشهرة والأهمية التاريخية، إلى أن أصبح لها، تقويم خاص بها، عرف بالتقويم الغزّي، كما للمسلمين تقويم هجري، وللمسيحيين تقويم ميلادي، ولليهود تقويم عبري، أو التقويم القبطي.
ويرجع مؤرخون، سبب حصول تقويم غزّي، هو ارتباط تلك المدينة بتواريخ حروب عالمية، عليها ومنها، كحروب ملوك الفراعنة، وملوك اليونان والرومان، وملك الأشوريين والبابليين وملوك المسلمين كصلاح الدين وأولاده، وهي معارك غيرت حياة أمم، وكتبت تاريخا جديدا، ثم ما لبث أن تم محوه، بحرب كبرى، وهكذا، حتى صارت أحداث غزة، تقويماً، يبدأ عام 60 قبل الميلاد، على وجه تقريبي، وبحسب المؤرخ عارف العارف، فإنه ينقل أن السنة الغزّية، ما بين شهر أكتوبر من سنة 61 ق.م وشهر أكتوبر من سنة 60 ق.م. ولهذا إذا كان التاريخ الميلادي، مثلا، سنة 505، فيقابله بالتاريخ الغزي سنة 565.
دخلها سادات العرب قبل الإسلام
ولم تنته غزة، من ضم أسماء ملوك وأعلام كبار إلى دفتي كتاب تاريخها، فتسمى غزة هاشم، نسبة إلى هاشم جد الرسول الكريم محمد عليه الصلاة والسلام، حيث لقي هاشم، ربه فيها، ودفن هناك.
وأقام الخليفة العادل عمر بن الخطاب، ردحا من الزمن فيها، كما يقول عارف العارف الذي أضاف، بأن عبد الله، والد النبي محمد "ص" قد دخل غزة وأقام فيها، فترة قصيرة، ولهذا يعتبر المؤرخون أن فتح المسلمين لغزة، لم يكن إلا استكمالاً لـ"فتح عربي" سبقه، بحركة التجار والعبور والسفر، ما جعلها مدينة عربية خالصة، على مر الدهور.
وغزة هي المدينة التي ولد فيها، الإمام الشافعي، عام 150-204 للهجرة.
صرعوها أو صرعتهم
ومن الجدير بالذكر، فإن غزة كثيرة الحضور في نصوص العهد القديم، ويشار إليها بالاسم، مرات كثيرة، نظرا لمكانتها ودورها وتأثيرها ورغبة أمم وملوك العالم بإخضاعها والسيطرة عليها، وهي المكان الذي كتبت فيه، نهاية قصة شمشون الجبار، بتحايل من امرأة تدعى دليلة التي يشار إليها بدليلة الغزّية، أو دليلة الفلسطينية، إلا أن المصادر الكنسية، ومنها مؤلفات القمص تادرس يعقوب، تؤكد أن دليلة الواردة في العهد القديم، نشأت في ما يعرف بوادي سورق، ويدعى حاليا باسم وادي الصرار، وهو على بعد 13 ميلا إلى الغرب من أورشليم وصولا إلى البحر الأبيض المتوسط.
ولهذا يعتبر المؤرخون، أن غزة، هي ابنة تاريخ متواصل وابنة أجيال منصرمة، من أقدم الأقوام والديانات الوثنية، إلى الديانة اليهودية ثم المسيحية والإسلامية، وما رافق ذلك كله، من دخول مختلف الامبراطوريات والممالك إليها، إلى الدرجة التي قال فيها مؤرخون كالعارف المشار إليه، إنه لم يبق فاتح ولا غازٍ، إلا ونازلتْه، غزة، فإمّا يكون قد صرعها، أو تكون هي قد صرعتْه.