تحولات تاريخية لضبط مواقيت الصلاة في قبلة المسلمين
ترتفع أهمية الوقت في الحرمين الشريفين؛ لارتباطه بمواقيت الصلاة التي ينضبط على توقيتها ملايين المسلمين من ضيوف الرحمن، والتي تلتئم خلالها الصفوف كجسد واحد، وتتجه فيها القلوب والوجوه إلى القبلة، في لحظة إيمانية واحدة. ولضبط مواقيت الصلاة في الحرمين، تَعاهد القائمون عليهما عبر التاريخ، على استقطاب كل ما من شأنه أن يُسهل على ضيوف الرحمن أداء عباداتهم ونُسكهم في يسر وسهولة. وتعكس قصة ضبط مواقيت رفع الأذان والإقامة ومواعيد الصلوات صورة عن التحولات التي طرأت على أحد عناصر التسهيل على المسلمين في الحرمين الشريفين.
وحتى أوائل القرن العشرين، كانت المزولة آخِر ما وصلت إليه التطورات بشأن ضبط المواقيت في الحرمين، واتخذت الآلة أداة مؤقتة للأذان في الحرم المكي، واتخذت المزولة الشمسية لتحديد أوقات الصلوات، قبل أن يجري طباعة ونشر التقويم الهجري، وقد كانت مثبتة على سطح بئر زمزم ومؤرخة منذ عام 1023 للهجرة. وفي معرض عمارة الحرمين، تحتفظ أروقته بقطعة من جهاز المزولة، كشاهد تاريخي يوثق التحولات التي طرأت على الآلات التي اتخذت لقياس الوقت في الحرمين الشريفين، وما شهدته من قفزات وتحديثات استُخدمت فيها آخر التقنيات، وما يزيد من دقتها وضبطها لأوقات العبادات.
كانت المزولة هي آلة ضبط التوقيت، منذ وضَعها لأول مرة الوزير جواد الأصفهاني في صحن المطاف وجعلها على طرف ركن الكعبة الشامي، وكان رئيس المؤذنين هو أول من يستعملها في المسجد الحرام، وفق تتبع تاريخي قدّمته «دارة الملك عبد العزيز» لآلة التوقيت التقليدية في الحرم المكي. والمزولة عبارة عن عصا مستقيمة أو شيء شاخص يُنصب على سطح أفقي، ويكون لها ظل يتغير بتغير مسار الشمس، وتتحدد الساعة من طول ظل العصا، وتُعرف بميزان الشمس.
وفي عام 1023 للهجرة، وضع عالم الفلك، السيد بركات المغربي، مزولة من رخام المرمر الأبيض في المقام الشافعي فوق بئر زمزم. وخلال العهد السعودي، حظي الحرمان الشريفان بعناية خاصة، منذ وضع الملك عبد العزيز التزاماً تاريخياً، تَعاهده ملوك السعودية بالتتالي، لخدمة الحرمين الشريفين وقاصديهما من أصقاع الأرض، وهو الأمر الذي انعكس على كل تفاصيل الواجب التاريخي للارتقاء بالخدمات، وتحسين تجربة الزائر، واستقطاب كل عناصر تسهيل وتيسير أداء المناسك، وزيارة قبلة المسلمين ومدينة الرسول الكريم. وعلى صعيد ضبط مواقيت الأذان والإقامة والصلوات، بدأت ملامح العناية السعودية بروح معاصرة ومتطلعة للتجديد مع إنشاء ساعة مكة الأولى التي أمر بها الملك عبد العزيز عام 1352 للهجرة، وبرزت وسط عمران مكة العريق، وعُدّت آلية حديثة لضبط المواقيت، وتبليغ قاصدي الحرمين وجيرانه بالمواقيت على نحو دقيق.
«ساعة مكة» رمز عالمي لمواقيت الصلاة
واستمرت الرعاية السعودية في إيلاء الحرمين الشريفين كل ما من شأنه التسهيل على المسلمين في رحاب الإيمان، وفي العشرين من رمضان عام 1432 للهجرة، أعلنت السعودية افتتاح ساعة مكة المكرمة بوصفها أكبر ساعة في العالم، وإطلاق توقيتها، بعد 4 أعوام من العمل على بنائها المميز بتفاصيله الجمالية والتقنية الدقيقة والإبداعية، وبعمر تشغيلي يمتد لثلاثمائة عام. وأصبحت منذ إطلاق توقيتها من رحاب مكة المكرمة بمكانتها الدينية الأثيرة في قلوب الملايين من المسلمين، وإرثها التاريخي العريق، رمزاً لمواقيت الصلاة في السعودية والعالم، وفي عام 2016 انضمت ساعة مكة المكرمة إلى شبكة التوقيت العالمي «UTC»، لتحصل المملكة بذلك على الاعتراف العالمي بتوقيتها.
وفي أعلى برج ساعة مكة، يفتح متحف متخصص أبوابه للزوار ويأخذهم في رحلة كونية إيمانية تحكي لهم طريقة قياس الوقت، بدءاً من الكون والمجرّات، وانتهاءً بساعة مكة المجاورة للحرم؛ مهوى أفئدة المسلمين ووجهة صلاتهم ورمز توقيت العالم الإسلامي. ويستعرض المتحف إسهامات المسلمين ودور المملكة في علوم الفضاء لسبر أغوار الكون الفسيح برؤية عميقة، والطرق التي اعتمدها الإنسان في قياس الوقت باستخدام كل من الساعتين الكونيتين؛ وهما الشمس والقمر، حتى أدق معايير الوقت وهي النانو ثانية، ومشاهدة تفاصيل صناعة أكبر ساعة في العالم، وروائع كل قطعة فيها، وكيف اجتمعت لتشكّل هذا الصرح والمَعلم الجليل، مقدماً لهم تجربة معززة بأحدث التقنيات التي تشرح لهم الميكانيكية الدقيقة التي تُسيّر عمل توقيت ساعة مكة.