وقتل داود جالوت…في كنعان!
ربّما كان السبب الأساسيّ لكره بعض اليهود والمسيحيين الصهاينة لكلمة فلسطين (Palestine) ارتباطَها بالفلستيّين (Philistines) الّذين دارت بينهم وبين بني إسرائيل معارك طاحنة في قديم التاريخ أشهرها معركة الملك شاؤول (طالوت) ضدّ جالوت (الفلستيّ بحسب المصادر التوراتيّة) الّذي قتلهُ نبيّ اللّه داود، وهو ما يؤكّده القرآن؛ وما دار بين شمشون (Samson) والفلستيّين بعد أن أحبّ منهم امرأة اسمها دليلة (Delilah، كالّتي في الأغنيّة) عندما زار غزّة. حيث اقتتل شمشون وأفراد من عائلة دليلة يوم زواجهما واستعر الأمر حتّى قتل كثيرين منهم وقتل نفسه معهم في ملحمة لا يزال يكررها اليهود حتى اليوم…المهمّ أنّ أولئك الفلستيّين كانوا على عداء مع اليهود.
يعود وجود الفلستيّين إلى القرن الثاني عشر قبل الميلاد إذ أقاموا في غزّة وعسقلان وأسدود وعقرون وجتّ (وكلّها حول غزّة)، ولا يَعرف علماء الآثار والتاريخ حتّى الآن من أين جاؤوا قبل ذلك، إلّا أنّ أرض كنعان حظيت باسمهم إبّان حكم اليونان والرّوم من بعدهم إذ أسموها فلسطين.
أُقيم مؤتمر في شهر تشرين الثاني/ نوفمبر الجاري (2016) عن الدراسات الشرقيّة طُرحت فيه -ضمن مجموعة من الورقات بحثيّة- نتائج أبحاث فريق آثار من هارفارد كانوا يبحثون عن آثار للفلستيّين في عسقلان، وقد نشر على إثره موقع”Science News” تقريرًا عن نتائج هذه الأبحاث الّتي اكتشف فيها العلماء مقابر وهياكل عظميّة للفلستييّن، وأشار التقرير إلى أنّ للفلستيّين طقوسًا في الدفن وحفظ الأموات لها تعقيد ذو بعد ثقافيّ وروحانيّ، الأمر الّذي لم يعرفوه عنهم من قبل (كانوا يظنّونهم همجًا!)، وكانت بعض هذه الطقوس قريبة من طقوس الكنعانيّين (مصطلح عام يطلق على الأقوام الأصليين الّذين قطنوا كنعان) الّذين كانوا يعيشون في مناطق متفرّقة على الساحل الفلسطينيّ -هم لم يقولوا الساحل الفلسطينيّ ولكن فشرت عينهم- ممّا يعني أنّهم تأثروا بهم (حيث لم يكن علماء الآثار يعتبرون الفلستيّين من الكنعانيّين).
آثار هياكل الفلستيّين الّذين نقّب العلماء عنهم تدلّ على أنّ الحالة الصحّية لهم كانت سيّئة قبل موتهم نتيجة الأمراض وسوء التغذية، والمفترض أن يجدوا بينهم من مات نتيجة الجراح لكونهم كانوا “مشكلجيّة” بطبعهم، إلّا أنّهم لم يكشفوا عن جميع الهياكل هنالك بعد، فلعلّهم يجدون بعضها ولعلّهم لا يجدون، فما ندري إن كانت قصص التاريخ صحيحة أصلًا!
اللّافت للانتباه هنا هو أنّ أطوال البالغين مّمن كشفوا عن هياكلهم هي {~1.55م} للرجال و{~1.47م} للنساء، أي أنّهم لم يكونوا جبّارين ضخام الجثّة كما عُرف عنهم. إذ تذكر بعض كتب تفسير القرآن أنّ طول ظلّ جالوت مِيل! “الجبّارين” الّذين ذُكروا في القرآن الكريم في سورة المائدة ليسوا بالضرورة الفلستيّين أنفسهم، فالجبّارون كانوا على زمن موسى -عليه السلام- الّذي مات قبل داود -عليه السلام- بقرنين أو أكثر، وكانوا في أريحا. وتذكر كتب التفسير أنّهم كانوا عمالقة قد وضع أحدهم مرّة نقباء بني إسرائيل الاثني عشر في جيبه لكبر حجمه وصغرهم بالنسبة له! ولعلّ جالوت انحدر منهم ولم يكن دمه فلستيًّا، ولعلّ قصص العملقة هذا ليست صحيحة من الأساس، ولعلّ الآثار الّتي وجدها العلماء ليست لمن تحدّثت عنهم الإسرائيليّات. قلت إنّ العلماء لا يعرفون للآن من أين أتى الفلستيّون في الأصل.
هل تهمّنا هذه الأبحاث وهذه الروايات؟ ألم نتعلّم في المدارس أنّنا من نسل كنعان وفلستية؟
***
على موقع يوتيوب قناة ليهوديّ قوميّ مُلحد هاجر من كندا إلى دولة الاحتلال في أواخر التسعينات، وأراد أن يعرف أكثر عن تاريخ الأرض وعن موقف الفلسطينيّين التاريخيّ منها ومن اليهود الّذين يؤمنون أنّهم سُكان هذه الأرض الأصليّون. يجول “كَوري” هذا في الضفّة على أنّه كنديّ ويُجري مقابلات مع أُناس من غزّة عبر الهاتف أيضاً، ويفعل الأمر ذاته مع الإسرائيليّين في الداخل وفي المستوطنات؛ يقوم بسؤال الفلسطينيّين والإسرائيليّين أسئلة ترده من المتابعين، ويعرض إجابات الفئتين على قناته. تحليل مصداقيّة مشروعه وموضوعيّته وما يُمكن استنتاجه من مواقف الشعبين “المُحتلّ” و”المُحتلّ” يستلزم الاستطراد ولا مجال له هنا، لكنّ من عاش في فلسطين وخالط الفلسطينيين -والإسرائيليّين- عن قرب يعلم أنّ آراء الفلسطينيّين في هذه الفيديوهات تمثّل شريحة واسعة من الشارع الفلسطينيّ العام، وليس كلّه بالطبع. المُلفت للانتباه جهل الفلسطينيّين -الّذين عُرِضَت مقابلاتهم على الأقلّ- بتاريخ هذه الأرض بل وضحالة ثقافتهم واطّلاعهم على القضيّة من منظور العالم خارج فقاعة “شعب الجبّارين” و”أصحاب الأرض”، وهذا أمر نلمسه دون الحاجة لعرضها على يوتيوب واستخدام ذلك لغرض تسويق الدعاية الإسرائيليّة. هذه المسلّمات الّتي يؤمن بها كلّ فلسطينيّ وعربيّ ومُسلم غير موجودة أبدًا في خطاب الإعلام الإسرائيليّ الموجه للعالم -الّذي لا يؤمن بدوره بها- والأقوى بكثير من الخطاب الفلسطينيّ أو العربيّ الموجه للفلسطينيّين والعرب فقط؛ مُجرّد تكرار للأمجاد والأوجاد والآلام والآمال لا يُطعم خُبزًا وُلا ينصر حقًّا. نخاف من الحديث عن التاريخ العميق وأن نتدبره وننقده ونتصالح معه، إذ الأصل أن لا خوف منه على أحقّية الفلسطينيّين في الأرض. من عاش في فلسطين ودرس مناهجها وسمع من بعض “مؤرّخيها” و”أكابرها” يعلم أنّ الفلسطينيّ لا يهمّه إلّا أن يكون على موجة الفلسطينّي، وأمّا العالم فليذهب إلى الجحيم…هم لم ينصرونا…عليهم أن يبحثوا عن الحق بأنفسهم وأن لا يصدقوا كذب وخداع الصهاينة…هذه مشكلتهم هم، أمّا نحن فنعلم أنّ الحقّ معنا وأنّ “الأرض لنا والقدس لنا والله بقوّته معنا، وجموع الكُفر قد اجتمعت كي تهزمنا لن تهزمنا”…فُصام وهم الحقّ والحقّ الموهوم!
في المقابل ترى الصهيونيّ يخوض في التاريخ والأرض والجغرافيا والآثار وكلّ شيء. يغيّر ويبدّل ويُزيّف الحقائق ويلوي أعناق بعضها ثمّ يضخّ العواطف هُنا ويضع المجهر على بعض الأخطاء هناك…يرضعون ذلك من أُمّهاتهم ويدرسونه في مدارسهم، ولا يكتفون بإقناع أنفسهم…بل يستطيعون إقناع العالم كُلّه بالعلم والعقل والبُرهان وبعض الوهم عندهم ممّا ينسبونه لنا أيضًا؛ إلّا من أبصر الحقّ منهم واعترف بذلك وهم عندئذٍ قليل.
كثير من الأكاديميّين العالميّين الباحثين في آثار كنعان (فالكل مُتّفق على هذا الاسم) من اليهود، وأكثرهم إسرائيليّون من جامعات إسرائيليّة وغير إسرائيليّة. القصّة التّاريخيّة الّتي يبنون عليها خطابهم -بصعوداتها وهبوطاتها وحقّها وباطلها ودلسها وزيفها- ليست حقًّا كلّها أو باطلًا كلّها بالضرورة…لكن ليس لنا أنّ نُفنّد أو نُثبت لأنّنا غًير مهتمّين أصلًا بذلك خلا بعض أكاديميّين هنا أو هُناك ممّن اقتصر على متابعة أعمالهم واستنكارها فحسب، أو من يعيشون على نظريّات المؤامرة ممّن يعبث في التاريخ كما يحلو لعقولهم.
أعلم أنّ الأرض مُحتلّة وأنّ المُقدّرات والمواقع الأثريّة كُلّها تحت سيطرتهم وأنّهم هم من قام بكتابة الرواية التاريخيّة بصورتها الحاليّة، ولكن ما الّذي يمنعنا من دراسة تاريخنا بعدستهم وعدسة غيرهم ممن درس فلسطين قبل الهجرات الصهيونيّة أو بعدها؟ ما الّذي يمنعنا أن ندرس تاريخ بني إسرائيل في فلسطين كما هو في توراتهم وقرآننا دون خوف من أن نخسر الحق في أرضنا؟ لِمَ لا ندرس ادّعاءاتهم ونردّ عليها ردودًا علميّة ومنطقيّة بلغة تُناسب العالم كُلّه اعتمادًا على وثائق تاريخيّة متوفّرة أو على التفنيد العقليّ للأدلّة.
تمتلئ الادّعاءات الصهيونيّة بالمصادرة على المطلوب ومغالطة رجل القشّ وزخرفات “الرنجة الحمراء” الّتي تشوش على الحقيقة. وهذه المغالطات ليست لأنّهم يجهلون المنطق بل لأنّهم يعرفونه جيّدًا ولا نعرفه. لو عرفنا التاريخ وسياقه الاجتماعيّ والسياسيّ والدينيّ لأرض كنعان ومن سكنها، ثمّ درسنا تاريخهم ودينهم وآراء الأحبار في ذلك ومنطلقات الحركة الصهيونيّة دراسة أكاديميّة بدل الاعتماد على خطابات الحماس الّتي نردّدها وقصص التاريخ الّتي لا تعود في الزمن أكثر من أربعة عشر قرنًا وبضعة أنبياء، لو درسنا ذلك في مدارسنا وكتبنا وإعلامنا الموجه إلينا وإليهم، لو خاطبنا غير المسلمين بخطاب يليق بهم، وخاطبنا الإسرائيليّين بخطاب يليق بهم بدل استعداءهم باعتباط، سيجعلنا ذلك نقف على حقّ أصله ثابت وفرعه في السماء بدل أن نرقص على جلمود صخر حطّه السّيل من علٍ.
حينئذٍ فقط تصبح أبحاث علماء الآثار واكتشافاتهم في أرض كنعان تهمّنا… وقد يصبح حديثنا عن تاريخ اليهود في فلسطين وعن آثار النبيّ سليمان ومملكة إسرائيل –الّتي امتدّت شرقيّ نهر الأردنّ– ونفي بابل وثورة المكابييّن جزءًا من تاريخنا نحن أيضًا…جزءًا نعيش معه بسلام دون شكّ بأنّ إسرائيل الفتيّة هذه لا شأن لها بإسرائيل سليمان ولا مكان لها حتّى في تاريخهم هم، وأنّ ما يؤمنون به ليس مفروضًا على غيرهم ممّن لا يتبعون دينهم. ولا ضير هنا في أن نُشير إلى أنّ فلسطينيّي اليوم ليسوا أحفاد الفلستيّين بالضرورة، ولا أحفاد الكنعانيّين أو الفينيقيّين أو العبرانيّين أو السريان أو الآرام أو المؤابيّين أو العرب أو العجم أو اليونان أو الصليبيين أو أو…فلسطينيّو اليوم حصاد كلّ الحضارات الّتي وطئت فلسطين، ولا يضيرهم إن كانوا أحفاد هؤلاء أو من نسل أولئك، فهم أيضًا أبناء داود؛ ولا تنفع اليهودَ أصولهم سواءً كانوا من نسل يعقوب والأسباط أو كانوا أشكناز من الخزر. علينا أن نُعيد قراءة التاريخ بصورة أعمق وأذكى وأن نخرج من مساحات الراحة الكاذبة الّتي استوطنّا فيها إلى فضاء العولمة والثقافة الحكيمة.