أحداث طالوت وجالوت ليست قصصا وأساطير
(وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ * فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ) (سورة البقرة: 251-252)
شرح الكلمات:
برز – خرج (الأقرب).
أفرغ – فرغ الماء: صبّه (الأقرب). أفْرِغْ علينا صبراً: أعطنا نصيباً وافراً من الصبر.. أي اجعلنا صابرين كاملين فلا يظهر منا ما يدل على الجزع والفزع.
انصرنا – نصر المظلوم: أعانه. نصر فلاناً على عدوه: نجّاه منه وخلّصه وأعانه وقوّاه عليه (الأقرب).
التفسير:
يقول إن طالوت وأصحابه هزموا جالوت ومن معه بإذن الله تعالى. والإذن هو السماح والعلم، ولكنه هنا بمعنى المشيئة والإرادة (المفردات).
هناك اختلاف في زمن هذه الواقعة بين المفسرين، حتى اعترض المسيحيون أيضاً وقالوا إن القرآن الكريم خلط هنا بين أحداث وقعت في زمنين منفصلين. أما قدامى المفسرين فيقولون أن هذا الملك هو شاول (تفسير الطبري).. عيَّنَه النبي صموئيل، وكان جالوت من أعدائه.
وتذكُر التوراة قامة وجسامة شاول ذكراً خاصاً فقد ورد عنه: “وكان له ابن اسمه شاول شاب وحسن، ولم يكن رجل في بني إسرائيل أحسن منه. من كتفه فما فوق كان أطول من كل الشعب” (صموئيل الأول 9: 2). وكذلك ورد في التوراة أن شاول كان من قبيلة أدنى (المرجع نفسه: 21). ولكن الثابت منها أيضاً أن الله سخط على شاول، وانتزع منه ملك بني إسرائيل (المرجع نفسه 15: 26)، وأن شاول مني بهزيمة نكراء على يد الفلسطينيين، وقتلوا ثلاثة من أولاده، وانتحر هو أخيراً (المرجع نفسه 31: 1-5). ولكن القرآن الكريم يذكر أن الملائكة تنصر هذا الملك وينال الفتح تلو الفتح. فإذا قلنا أن طالوت الملك هو شاول فلا تنطبق عليه العلامات القرآنية.
وعندما تدبرت في هذه الآيات أُعجبت بالمعنى الذي يعترض عليه الأعداء بسبب جهلهم. يقولون أن القرآن خلط حدثين وقعاً في زمنين مختلفين تماماً. أما المفسرون فقد حاولوا إثبات أن زمن طالوت وجالوت وداود واحد. ويطبقون هذا الحادث على شاول، لأنه كان طويل القامة، وكان من أعدائه شخص يسمى جُليات (صموئيل الأول 17: 4).
ولكنني أرى أنه قبل تعيين أي شخص يجب علينا أن نلقي نظرة شاملة على كل العلامات التي ذكرها القرآن عن هذا الحادث.
أولاً: بيّن قولهم (أُخْرِجْنا مِن دِيارِنا وأبْنائِنا).. أن بني إسرائيل أُخرجوا من ديارهم.
ثانياً: أنه عُيّن عليهم ملكٌ لم يكن من أسرة كبيرة ولا من نسل الملوك.
ثالثاً: كان الله تعالى ينصره وأصحابه، وكان عندهم تابوت.
رابعاً: اختبر هؤلاء بنهر.
خامساً: كان عددهم قليلاً جداً إزاء أعدائهم. وقلُّوا أكثر بعد الاختبار.
سادساً: تغلب هذا الملك على أعدائه رغم كل ذلك.
نعم، تنطبق بعض هذه العلامات على شاول، فقد صار ملكاً بتعيين من نبي. وحقق انتصارات على الأعداء، وكان من أعدائه شخص اسمه جالوت. ولكن أرى أن هناك أموراً أكثر أهمية من هذه، وتفرض علينا البحث عن شخص آخر بدلاً من شاول، وهذه الأمور هي:
1.قوله (مِنْ بَعْدِ مُوسَى)، وهذه العبارة تدفعني إلى الاعتقاد بأن هذا الحادث وقع في زمن يبدأ منه تاريخ بني إسرائيل. إذا ذُكر داود تبين أنهم يهود، وهذا شيء بديهي؛ فما الحاجة إلى أن يقول من بعد موسى. الحق أن هذه الكلمات تشير إلى تاريخ قومي لبني إسرائيل.
2.يقول القرآن (تَحْمِلُهُ الملائكةُ) مما يوجب أن يحقق هذا الانتصار دائماً، ولكن شاول مني بالهزائم، وكان مصيره مؤلماً باعثاً على الحسرة (المرجع السابق 28).
2.يقول القرآن (إنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَر) أي أن هؤلاء قد اختُبروا بنهر، ولكن لا نجد أي ذكر في التوراة في زمن شاول عن ابتلائهم بنهر. فعند البحث عن هذا الشخص لا بد من النظر إلى حادث النهر أيضاً.
ومن الغريب أننا نجد في التوراة حادثاً عن نهر، وأن قوماً اختُبروا به، وطُلب منهم صراحةً ألا يشربوا منه، ولكن معظمهم شربوا منه فتأخروا، أما الذين لم يشربوا فهاجموا العدو وتغلبوا عليه (قضاة 7). فكأن هذا الحادث الوارد في موضع آخر من التوراة ومن غير زمن شاول يؤكد البيان القرآني.
ولقد اعترض المسيحيون على هذا البيان القرآني وقالوا أن هذا الحادث من زمن جدعون، وخلط القرآن بين الحادثين، وقوله (وقَتَلَ داودُ جالوتَ) خطأ، لأن داود جاء بعد جالوت أو جدعون بمائتي سنة، فكيف يقتله؟
وأرى أن القرآن يشير هنا إلى حادث جدعون، والتوراة لم تذكر أن الله عيّنه، ولكن القرآن يذكر ذلك؛ وهذا هو كل الفرق. ما ورد في التوراة هو أن الله بعث نبياً إلى بني إسرائيل، وقال لهم نبيهم هذا: قال الله لكم: لا تخافوا من آلهة الأموريين الذين تقيمون في بلدهم، ولكنكم لم تعملوا بوصيتي (قضاة 6: 10). ثم تذكر التوراة أن جدعون رأى ملكا قال له: قُم ونجِّ بني إسرائيل من أيدي المِديانيين (قضاة 6: 14). أما العلامات الأخرى المذكورة في القرآن فهي كلها مذكورة في هذا الحادث الوارد في التوراة أيضاً.
إن زمن وفاة موسى هو 1451 ق.م. أما جدعون فكان حادثته بعد وفاة موسى عام 1266 ق.م. إذن هناك فاصل زمني بعد موسى وبين جدعون يبلغ مائتي سنة تقريباً.
وورد في الموسوعة الكتابية Encyc. Biblica أن بني إسرائيل بعد مجيئهم من مصر إلى كنعان لم يصبحوا أمة واحدة، وإنما كانوا يعيشون في أراضٍ مختلفة في صورة قبائل منفصلة لا يجمعهم ملك؛ بل لم يكن لهم ملوك لمدة مائتي سنة. فلا جنود ولا ملك (تحت كلمة إسرائيل).
وورد في التوراة أنه في عام 1256 ق.م. ارتكب بنو إسرائيل إثماً أمام الله، فجعلهم الله تحت المديانيين لسبع سنين، وكانت يدهم فوق إسرائيل، والتجأ بنو إسرائيل إلى الكهوف واتخذوا منها بيوتاً لهم (القضاة 6: 1- 2). وهذا قريب من قوله تعالى (وَقَد أُخْرِجْنا مِن دِيارِنا وأبْنائِنا). وإذا زرع إسرائيل ينزلون عليهم ويتلفون غلة الأرض إلى مجيئك إلى غزة، ولا يتركون لإسرائيل قوت الحياة ولا غنما ولا بقرا ولا حميرا. فذلَّ إسرائيل جداً من قِبل المديانيين. وصرخ بنو إسرائيل إلى الرب.. إن الرب أرسل رجلاً نبياً إلى بني إسرائيل فقال لهم: هكذا قال الرب إله إسرائيل: إني قد أصعدتكم من مصر، وأخرجتكم من بيت العبودية، وأنقذتكم من يد المصريين ومن يد جميع مُضايقيكم، وطردتُهم من أمامكم، وأعطيتكم أرضهم. وقلت لكم إن الرب إلهكم، لا تخافوا آلهة الأموريين الذين أنتم ساكنون أرضهم، ولم تسمعوا لصوتي” (قضاة 6: 4-10).
هنا ذُكر نبي ولكن لم يرد أنه عيَّن ملكاً، وكل ما جاء فيه أن ملاكاً ظهر لجدعون هكذا: “وأتى ملاك الرب وجلس تحت البُطمة التي في عَفْرة التي ليُواش الأبيعَزَرِي. وابنه جِدعون كان يخبط حنطة في المعصرة لكي يهرِّبها من المديانيين. فظهر له ملاك الرب وقال له: الرب معك يا جبار البأس. فقال له جدعون: أسألك يا سيدي، إذا كان الرب معنا فلماذا أصابتنا كل هذه، وأين كل عجائبه التي أخبرنا بها آباؤنا قائلين: ألم يصعدنا الرب من مصر؟ والآن قد رفضنا الرب وجعلنا في كفّ مديان. فالتفت إليه الرب وقال: اذهب بقوتك هذه وخلِّص إسرائيل من كف مديان. أما أرسلتك؟ فقال له: أسألك يا سيدي، بماذا أخلص إسرائيل؟ ها عشيرتي هي الذَّلَّى في مَنَسّى وأنا الأصغر في بيت أبي. فقال له الرب: إني أكون معك، وستضرب المديانيين كرجل واحد” (قضاة 6: 11-16). يذكر القرآن كلمة “جنود” وتذكر التوراة أيضاً أن المديانيين والعمالقة وبني المشرق كانوا موجودين هنا.
ثم جاء في التوراة: “وقال الرب لجدعون: لم يزل الشعب كثيراً. أنْزِل بهم إلى الماء فأنقِّيهم لك هناك. ويكون أن الذي أقول لك عنه هذا يذهب معك فهو يذهب معك، وكل من أقول لك عنه هذا لا يذهب معك فهو لا يذهب. فنزل بالشعب إلى الماء. وقال الرب لجدعون: كل من يَلَغُ بلسانه من الماء كما يلغ الكلب فأوْقِفْه وحده، وكذا كل من جثا على ركبتيه للشرب. وكان عدد الذين ولغوا بيدهم إلى فمهم ثلاثمائة رجل. وأما باقي الشعب فجثوا على ركبهم لشرب الماء. فقال الرب لجدعون: بالثلاثمائة رب الذين ولغوا أخلِّصكم وأدفع المديانيين ليدك. وأما سائر الشعب فليذهبوا كل واحد إلى مكانه. فأخذ الشعب زاداً بيدهم مع أبواقهم. وأرسل سائر رجال إسرائيل كل واحد إلى خيمته وأمسك الثلاثمائة الرجل. وكانت محلة الديانيين تحته في الوادي” (نفس المرجع 7: 4-8).
ثم هناك ذِكر لنجاة بني إسرائيل من المديانيين حيث أخذ جدعون معه ثلاثمائة من الرجال وحارب بهم وانتصر على المديانيين (فقرة 25). هذا الحادث يشبه ما رواه القرآن حرفاً حرفاً. ويؤيد ذلك ما ورد في البخاري أيضاً عن البراء بن عازب يقول: “كنا أصحاب محمد نتحدث أن عدة أصحاب بدر على عدة أصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهر، لم يجاوز معه إلا مؤمن بضعة عشر وثلاثمائة (البخاري، المغازي).
وهنا ينشأ سؤال: القرآن يذكر اسم هذا الملك طالوت، ولكن التوراة تسميه جدعون؛ فكيف يمكن التوفيق بين هذين الأمرين؟
ولأتحدث أولاً عن جدعون. العجيب أن معنى جدعون في العبرانية هو كمعنى طالوت في اللغة العربية. فكلمة “جدع” تعني في العبرانية أن يقطع الإنسان شيئاً ويسقطه على الأرض، أو يقشره، أو يقطعه بالفأس. فجدعون هو من يقطع عدوه ويصرعه. وقد ورد في التوراة عن جدعون أنه كان بطلاً كبيراً ومحارباً شجاعاً (قضاة 6-11).