بينما تشقّ السفينة الأميركية طريقها إلى غزة محملة بالمعدات اللازمة لبناء الرصيف العائم هناك، والمتوقع وصولها في السابع من الشهر القادم؛ ما زال الغموض يخيم على دوافع إنشاء هذا الرصيف، والأهداف التي يسعى التحالف الصهيو- أميركي إلى تحقيقها من وراء إنشائه، والذي من المتوقع أن يكون جاهزًا للاستخدام في الأسبوع الأول من شهر يونيو/ حزيران القادم.
وقد أوضحت في مقالي السابق كيف أن هذا المشروع لم يكن وليد اللحظة عند الرئيس الأميركي جو بايدن، وإنما بعد أسبوعين من بدء حرب الإبادة الجماعية الصهيو-أميركية على قطاع غزة. وها هو المشروع يدخل حيّز التنفيذ بالتزامن مع إعلان جيش الاحتلال الصهيوني عن إنشاء (جزر إنسانية) في قطاع غزة لنقل سكان مدينة رفح إليها، قبل العملية العسكرية التي ينوي القيام بها في الأيام القليلة القادمة.
المشكلة الكبرى التي تشغل الولايات المتحدة والدول الغربية ليست النتائج الإنسانية للحرب، وإنما فشل الكيان الصهيوني في القضاء على حركة حماس، وهذا يعني ضرورة مساعدته على تحقيق انتصار عسكري واضح وعاجل، يعيد هيبته الإقليمية والدولية التي مرّغتها المقاومة الفلسطينية والتفاف الشعب حولها
منطلقات أساسية للفهم
قبل الحديث عن الدوافع والأهداف المحتملة لإنشاء الرصيف العائم، لا بد من استحضار المنطلقات الأساسية التالية؛ لفهم أوضح لما يجري في قطاع غزة حاليًا من عمليات وتحركات، عسكرية وسياسية وإدارية:
وافقت الولايات المتحدة على إنشاء الرصيف العائم؛ نزولًا عند طلب الكيان الصهيوني المبيّت، وإذا كان هدفها لتمكين بواخر الإعانات الإنسانية من الوصول إلى النازحين؛ فقد كان بإمكانها إنشاؤه على ساحل البحر المتوسط شمال قطاع غزة في أراضي الكيان الصهيوني، أو جنوب قطاع غزة في الأراضي المصرية، لتجنب التعرض لأي هجمات من طرف المقاومة الفلسطينية حسب تخوفاتها، كما كان بإمكانها الاستعاضة عن ذلك بالاستعانة بميناء أسدود شمالًا أو العريش جنوبًا، بدلًا من إنشاء الرصيف العائم.
أن الولايات المتحدة والدول الغربية تعتبر حركة حماس تنظيمًا إرهابيًا، وتقف بشكل صلب وموحّد مع الكيان الصهيوني في أهدافه المعلنة من الحرب على غزة، وأولها القضاء على حركة حماس، ويتفق معها في هذا الموقف – للأسف الشديد- السلطة الفلسطينية، وعدد من الدول العربية.
أن الأزمة الحقيقية والمشكلة الكبرى التي تشغل الإدارة السياسية والأجهزة الأمنية والعسكرية للولايات المتحدة والدول الغربية ليست النتائج الإنسانية للحرب، وإنما فشل الكيان الصهيوني في تحقيق أهدافه المعلنة، وفي مقدمتها القضاء على حركة حماس، وهذا يعني ضرورة مساعدة الكيان الصهيوني على تحقيق انتصار عسكري واضح وعاجل، يعيد له هيبته الإقليمية والدولية التي مرّغتها المقاومة الفلسطينية، والتفاف الشعب حولها.
أن مسرحيات منع المساعدات الإنسانية وأزمة الأونروا والجوع لم تعد تنطلي على أحد، وأنّ تباكي الولايات المتحدة والدول الغربية على ما يحدث من إبادة جماعية للشعب الفلسطيني في قطاع غزة، إنما هو للاستهلاك الإعلامي، وإرضاء الناخبين، والظهور المخادع بمظهر المحافظ على القيم الإنسانية الحضارية الغربية. لأنه لو كان التباكي حقيقيًا لاتخذت مبكرًا إجراءات ملزمة للكيان الصهيوني لإيقاف الحرب وإدخال المساعدات، وحقن دماء المدنيين، فالولايات المتحدة والدول الغربية تسيطر على النظام العالمي، ودولة الكيان الصهيوني تعتبر حليفًا إستراتيجيًا لها.
أن الغرب يتباكى على ما يحدث للشعب الفلسطيني في قطاع غزة، ولكنه لم تصدر عنه حتى الآن أية إدانة واضحة وصريحة لما يقوم به الكيان الصهيوني، على غرار الإدانات العدوانية الشرسة التي انطلقت متلاحقة ضد حركة حماس على مدى الأسبوع الأول عقب هجوم "طوفان الأقصى" في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي.
أن السلوكيات التي ينتهجها الكيان الصهيوني في حربه ضد حماس، ليست سلوكيات عسكرية منضبطة، تهدف إلى إلحاق الهزيمة بحركة حماس، وتحرير الأسرى والمختطفين، وإنما سلوكيات إبادة جماعية شاملة لسكان قطاع غزة وبنيتها الفوقية والتحتية؛ تكشف عن وجود أهداف أخرى غير معلنة، يؤكدها واقع الحال عسكريًا وسياسيًا، والخطط التي تتكشف يومًا بعد يوم.
تتحدث الولايات المتحدة والدول الغربية كثيرًا عن رفضها عملية التهجير القسري لسكان قطاع غزة؛ باعتباره مخالفًا للقانون الدولي والإنساني، وهذا يعني تلقائيًا قبولها بالتهجير الطوعي، والعمل على تهيئة الظروف التي تحثّ سكان قطاع غزة على الهجرة الطوعية.
أن الحديث عن الهجوم على مدينة رفح وإصرار رئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتنياهو على القيام به؛ لا يمكن فهمه إلا في إطار الأهداف غير المعلنة؛ لأن المبررات التي يسوقها للقيام بهذا الهجوم سبق أن قدّمها عند بدء الاجتياح البري، وعند اجتياح المحافظات الوسطى، واجتياح خان يونس، والتي لا يزال يواجه فيها جميعًا مقاومة شرسة ومكلِفة حتى الآن.
أن نهاية الحرب لا تبدو قريبة إذا استمر الوضع على ما هو عليه في حكومة الكيان الصهيوني، واستمر نتنياهو على رأس السلطة، والحديث عن تأهيل قطاع غزة، وترتيب الوضع القادم بعد الحرب سيستغرق سنوات، سيحدث فيها ما لم يخطر على بال أحد. أما الحماسة الدولية لحل الدولتين، فهي للاستهلاك السياسي المحلي والإقليمي والدولي، وليس من المتوقع لها أن تسفر سوى عن دورة جديدة من المؤتمرات الدولية التي لن تفضي إلى شيء.
دخلت الولايات المتحدة مياه غزة دون إذن أو تفويض من أحد، وستكون صاحبة الكلمة في المرحلة القادمة، فهل ستنجح في تنفيذ خططها ومشروعاتها الصهيو-أميركية أم ستغوص في رمال غزة، كما غاصت من قبل في الصومال وأفغانستان والعراق؟ وهل ستبقى الأمور تحت سيطرتها أم ستعصف بها رياح التجاذبات الإقليمية والدولية المتربصة؟
الدوافع المحتملة لإنشاء الميناء
في 22 يناير/ كانون الثاني الماضي، التقى وزير الخارجية الصهيوني "إسرائيل كاتس" بمجلس وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي في بروكسل، وقدّم لهم مشروعين: الأول إنشاء خط سكة حديد يربط الكيان الصهيوني بالأردن والسعودية والبحرين والإمارات والهند، والثاني إنشاء جزيرة اصطناعية على ساحل قطاع غزة، مع مطار وميناء ومنطقة صناعية ومحطة تحلية، لكي يتم استيعاب الشعب الفلسطيني فيها لحين إعادة تأهيل قطاع غزة، وهو المشروع الذي قدمه كاتس عام 2017م لرئيس وزرائه نتنياهو في حكومته السابقة التي كان فيها وزيرًا للمواصلات، وقد لاقى حينها قبولًا واسعًا من نتنياهو وحكومته. ورغم الملحوظات التي أبداها جوزيب بوريل، مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، على عرض الوزير كاتس، فإن الاتحاد الأوروبي من أوائل المؤيدين لإعلان الرئيس بايدن عن إنشاء الرصيف العائم في غزة.
وقد أكد الرئيس بايدن في اتصاله الهاتفي مع نتنياهو قبل يومين على "ضرورة هزيمة حماس في غزة، مع القيام في الوقت نفسه بحماية المدنيين وتيسير تسليم المساعدات". وأوضح مستشار الأمن القومي الأميركي جاك سوليفان في اليوم نفسه أن الولايات المتحدة لن تسمح لحركة حماس بأن تجد ملاذًا آمنًا في رفح، وأن هناك خبراء عسكريين وأمنيين وإنسانيين من الولايات المتحدة والكيان الصهيوني سيجتمعون قريبًا لوضع خطط بديلة للهجوم على رفح تضمن تحقيق الهدفين معًا؛ هدف القضاء على حماس وهدف المحافظة على المدنيين، ويأخذ في الاعتبار التخوفات الأمنية المصرية.
وبالعودة إلى المنطلقات الأساسية السابقة لفهم ما يدور، يمكننا استنتاج الدوافع الصهيو-أميركية والغربية من إنشاء الرصيف العائم، ومن أهمها:
تنفيذ مشروع الميناء الذي عرضه نتنياهو على الرئيس بايدن، وعرضه الوزير كاتس على وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي، فالرصيف العائم لن يبقى رصيفًا، وإنما سيكون مقدمة لإنشاء الميناء، الذي استعدت دول عربية للمساهمة فيه، وتم الإعلان عن أنه سيستقبل ليس فقط سفن المساعدات الإنسانية؛ بل السفن التجارية كذلك.
وقد أعلن الناطق العسكري الصهيوني أن الجزر الإنسانية المؤقتة لنقل سكان رفح إليها قبل الهجوم عليها، سيتم بناؤها بالتعاون مع المجتمع الدولي، وتوفير الإمدادات الإنسانية اللازمة لها عن طريق الأمم المتحدة. وسيكون لهذا المشروع -الذي سيدار بالتنسيق مع الكيان الصهيوني- دور كبير في تنفيذ مخططات الوضع القادم لقطاع غزة، والتي لم يعلن عنها بعد.
دعم جيش الكيان الصهيوني ميدانيًا، ومساعدته على تحقيق الانتصار على حركة حماس، عن طريق القوات التي سترافق عملية إنشاء الرصيف العائم، ويصل عددهم في المرحلة الأولى إلى 1000 من أفراد البحرية الأميركية، ومن المتوقع أن يضم هذا العدد كوادر أمنية واستخباراتية وعسكرية وإدارية تعمل على اختراق المجتمع الفلسطيني، وإضعاف الالتفاف الشعبي حول المقاومة، وخاصة بعد نقل النازحين إلى الجزر الإنسانية، وعزلهم عن الحياة اليومية الحالية وتخفيف المعاناة عنهم.
كسر إرادة وصمود الشعب الفلسطيني، وتهيئة الظروف له للهجرة الطوعية، وخاصة للنازحين المتواجدين في الجزر الإنسانية، بتشجيع من الأمم المتحدة، وتسهيلات من الدول الغربية، ما سيزيد الضغط على حركة حماس، ويفقدها ورقة التأييد الشعبي. ويبدو أن إدخال قبرص على خط النقل البحري جاء ليخدم غرض الهجرة الطوعية.
إعطاء مزيد من الوقت لتمكين جيش الكيان الصهيوني لإنجاز هدف القضاء على حماس، بعد تفريغ المناطق من السكان والمستشفيات ودور العبادة، واقتصار ساحة المعركة على الجيش الصهيوني وكتائب المقاومة المسلحة، وفي مقدمتها كتائب عزالدين القسام.
الضغط على مصر لتقديم تسهيلات في استيعاب قسم من النازحين وتسهيل انتقالهم من رفح إلى الأراضي المصرية بالتنسيق مع الأمم المتحدة، حتى لا تفوتها الفرص الاستثمارية القادمة، وتفقد دورها في ترتيب أوضاع المرحلة التالية.
وليس من المستبعد أن يكون لهذا الميناء دور في التحضيرات الأولية لمشروع استخراج الغاز الطبيعي من المياه الإقليمية لغزة، وغيرها من مشروعات المرحلة القادمة.
إن الخطط والتصورات المطروحة حاليًا لمرحلة ما بعد الحرب، تختلف كثيرًا عما تتجادل حوله الأوساط الفلسطينية والعربية؛ بحثًا عن موقع حماس في المشهد القادم، ومن سيحكم غزة بعدها، وعن دور السلطة الفلسطينية والقوى الفلسطينية المتربصة خلف الأبواب. فإذا كتب النجاح لهذه الخطط والتصورات، فقد لا يكون هناك شيء اسمه قطاع غزة، ولا شعب قطاع غزة حتى يختلف الفرقاء الفلسطينيون والعرب حول مَن وكيف.
لقد دخلت الولايات المتحدة مياه غزة دون إذن أو تفويض من أحد، وستكون صاحبة الكلمة في المرحلة القادمة، فهل ستنجح في تنفيذ خططها ومشروعاتها الصهيو-أميركية أم ستغوص في رمال غزة، كما غاصت من قبل في الصومال وأفغانستان والعراق؟ وهل ستبقى الأمور تحت سيطرتها؟ أم ستعصف بها رياح التجاذبات الإقليمية والدولية المتربصة؟
أما السؤال عن موقف حركة حماس من كل ذلك، فسيكون لنا حديث حوله في مقال قادم بإذن الله.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.