حديث القرآن الكريم عن الهجرة إلى المدينة المنورة
الهجرة النبوية من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة نقلة نوعية في مسيرة الإسلام، وعلامة فارقة في تاريخ الدعوة المحمدية، وتحول من بيئة شبه محاصرة إلى عالم مفتوح ومتعدد الأعراف والاتجاهات، وانطلاقة استباقية لجذب الكيانات المتواجدة في يثرب، تلك المدينة التي كانت تحتوي الأوس والخزرج وبعض القبائل الأخرى، إذ ليس لها تاريخ بارز مع ديانة إبراهيم -عليه السلام- فلا يوجد بها ما يسعى الناس إليه كالكعبة المشرفة، والصفا والمروة ومنى وعرفة، وسائر المناسك الأصيلة، التي صارت مع غيرها أعماقًا متجذرة، وأصولًا داعمة للإسلام في البلد الحرام، ذلك الدين الجديد الذي قوبل بصعوبات وتحديات في تبليغه وانتشاره، داخل أم القرى والبلدان المجاورة لها.
ولقد مرت السيرة النبوية بعدة مراحل، وصولا للهجرة إلى يثرب، من كافة المهاجرين أفرادًا وجماعاتٍ قبل هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم وبعدها، حتى بلغ التاريخ عام الفتح فتوقفت الهجرة المكانية، وتحولت دلالاتها إلى الهجرة المعنوية، فقال صلى الله عليه وسلم: «لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا»(1)، كما عالجت السنة النبوية أحداث السنوات الثلاث، التي عَـبّـأت أحداثها والهموم الثقال فيها حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وسائر المسلمين قبل بدء الهجرة، وتعاقبت الغاشيات على الإسلام فبدت الحركة فيه إلى خارج مكة مقيدة وذات منافذ ضيقة، ولم يتم الانتقال البارز -آنذاك- إلا في الهجرة إلى الحبشة، حيث تنفس المسلمون الصعداء بتلك الأرض، التي ركبوا البحر إليها، وشعروا بالأمن تحت مظلة الحماية النجاشية، التي استعصت على الملاينة في الحوار مع وفد قريش، وإعادتهم إلى عبادة الأصنام والأوثان حول البيت الحرام.
أما المنهج القرآني في عرض أحداث الهجرة إلى يثرب بكافة أحوالها فمختلف غاية الاختلاف، فالقرآن الكريم ليس كتابًا في التاريخ، ولا في الفقه، ولا في علوم اللغة، ولا في أي علم آخر، ولكنه معجزة إلهية غير قابلة للتحدي من البشر ولا من غير البشر.
وإذا تعقبنا الأحداث البارزة والمؤثرة في مسيرة الهجرة فسوف نجد القرآن الكريم يقدمها بعرض بياني وشمولي يستحق التأمل والاعتبار، وصولا إلى النواتج الداعمة للدعوة الإسلامية قديما وحديثا، ولكل الباقي من زمن الإعمار الكوني.
الهجرة في القرآن الكريم:
الهجرة في أصل معناها: الخروج من أرض إلى أخرى، وفي عرف الإسلام: الخروج من دار الكفر إلى دار الإسلام، والمهاجرون: هم الذين خرجوا من مكة إلى الحبشة ابتداء، بتوجيه من النبي (صلى الله عليه وسلم)، والمهاجرون أيضًا: من هاجروا إلى يثرب قبل الرسول (صلى الله عليه وسلم)، أو بعده إلى عام الفتح، وإذا أُطلق ذكر الهجرتين فإنه يراد بهما الهجرة إلى الحبشة والهجرة إلى يثرب، هذه التي سميت في الإسلام بالمدينة المنورة.
وقد تعددت كلمة الهجرة بتصريفاتها وتنوع معانيها إحدى وثلاثين مرة في القرآن الكريم، حسب السياقات وأسباب النزول، بما يشمل كل المعاني التي تطلق عليها صياغات هذه الكلمة.
وتصافح أعيننا في الدعوة إلى الهجرة والترغيب فيها قول الله عز وجل:
"وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً ۚ وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا" (النساء: 100)
والمعنى: أن من يهاجر في سبيل الله.. يجد في سعة الأرض خيرًا كثيرًا يرغم به أنف عدوه»(2)، ويجد سعة في الرزق .. "وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ" أي قبل بلوغ دار الهجرة .. " فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ" أي ثبت أجره على الله، ثم تنتهي الآية بقول الله تعالى: "وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا" أي ساترا على العباد، ورحيما بهم.
وتحدث القرآن عن هجرة بعض أنبياء الله من بلاد إلى أخرى، تخلصًا من مقاومة الناس لهم، وانتقالا إلى بلدان أخرى، يرون فيها المخرج والملاذ لإقامة شرع الله تعالى.
وتحولت دلالات الهجرة بعد الفتح عام ثمانية من الهجرة إلى تفعيل الإيمان، والقرب من الله، ومجانبة كل ما يضر الدين ويؤذي الناس، ومواجهة المنكر وفق الاستطاعة، ونصرة أهل الحق، ومقاومة كل ما يغضب الله ورسوله (صلى الله عليه وسلم)، تلك المعاني التي يحتويها الحديث النبوي الذي رواه عبد الله بن عمرو عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه»(3).
وتعد هجرة بعض المسلمين إلى الحبشة حلّا جزئيًا لحرية العبادة، وانعتاقا من المضايقة المستمرة لمعتنقي الإسلام والراغبين فيه، لكن القضية على عمومها في احتياج إلى منافذ جديدة، وأرض رحيبة تتم العبادة فيها على مقربة من الرسول (صلى الله عليه وسلم)، مع وجود لغة للتفاهم والتقارب، والدعوة إلى الدين الجديد.
وقد رضي الرسول (صلى الله عليه وسلم) لأصحابه منفذًا للانسحاب من الواقع المعاش، والانتقال إلى أرض الحبشة، ريثما تتغير الأحوال، وقال الرسول لهم: «لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكًا لا يُظلم عنده أحد، وهي أرض صدق، حتى يجعل الله لكم فرجًا مما أنتم فيه»(4)، وقد هاجر آنذاك عثمان بن عفان والزبير بن العوام ومصعب بن عمير، وعبد الرحمن بن عوف وجعفر بن أبي طالب وغيرهم، ومنهم من خرج بأهله، ومنهم من خرج بنفسه لا أهل معه، وطاب لبعضهم المقام هناك، وعاد آخرون إلى مكة، وتحمل أمانة الدعوة والريادة الدينية لهم جعفر بن أبي طالب، وممن عاد إلى مكة مصعب بن عمير، كما لحق بهم آخرون، إذ لم ينقطع التواصل مع النجاشي، الذي كان مضرب المثل في الأمانة والصدق والوفاء.
الإعداد للهجرة:
كان النبي (صلى الله عليه وسلم) يعرض نفسه على قبائل يثرب في زمن الحج، ويأتي إلى منازلهم في أسواق المواسم وهي (عكاظ ومجنة وذو المجاز)، ولم يحقق معهم ما كان يطمح فيه، ثم سعى في عام آخر إلى فتح منافذ للحوار مع القادمين للحج، فالتقى بستة أشخاص من الخزرج وقال لهم: «أفلا تجلسون أكلمكم؟ قالوا: بلى، فجلسوا معه فدعاهم إلى الله -عز جل-، وعرض عليهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن»(5).
ثم قال بعضهم لبعض: يا قوم تعلموا(6) والله إنه للنّبي الذي توعدكم به يهود فلا تسبقكم إليه(7)، وانصرفوا بعد أن آمنوا وأسلموا، راجعين إلى بلادهم، ولما عادوا إلى يثرب ذكروا لقومهم ما كان من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ودعوهم إلى الإسلام، وانتشر الخبر في بيوت الأنصار، ولما حل موسم الحج في العام التالي، وترقب الرسول (صلى الله عليه وسلم) خبرًا يأتي إليه من حجاج يثرب، وإذ به يلتقي باثني عشر رجلا اثنين من الأوس وعشرة من الخزرج، وأعلنوا للرسول إسلامهم حيث كان اللقاء بالعقبة(8) وبايعوه فيما سمي ببيعة العقبة الأولى.
وبعث الرسول (صلى الله عليه وسلم) معهم مصعب بن عمير بن هاشم إلى المدينة وأمره أن يقرئ المسلمين بها القرآن، ويعلمهم الإسلام، ويفقههم في الدين، وعادوا إلى المدينة وأنوار الإيمان تضيء ما بين جوانحهم، وعلامات البشر تعلو وجوههم، وزاد أملهم في رفع كلمة الإسلام على أرض يثرب، وجمع الشمل ونبذ الحرب وإعلاء راية الإيمان.
ومر العام وصولًا إلى موسم الحج، حيث رجع مصعب بن عمير إلى مكة، ومعه من خرج من الأنصار إلى لقاء الرسول، وتشكل منهم وفد من سبعين رجلا وامرأتين من مسلمي الأوس والخزرج، وتسللوا مستخفين حتى وصلوا إلى مكان الاجتماع في طريق الجبل عند العقبة، ثم جاء رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إليهم ومعه العباس بن عبد المطلب، وهو يومئذ على دين قومه، وكان أول المتحدثين فقال: «يا معشر الخزرج إن محمدًا منا حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومنا، ممن هو على مثل رأينا فيه، فهو في عِزٍ من قومه، ومنعة في بلده، وإنه قد أبى إلا الانحياز إليكم، واللحوق بكم، فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه، ومانعوه ممن خالفه، فأنتم وما تحملتم من ذلك، وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج به إليكم، فمن الآن فدعوه، فإنه في عز ومنعة من قومه وبلده»(9).
وارتضى الرسول (صلى الله عليه وسلم) وسائر الحاضرين ما قاله العباس، وما اشترطه للرسول (صلى الله عليه وسلم)، وما قَبله مسلمو الأوس والخزرج، ثم قال الرسول لهم: «أخرجوا إليّ منكم اثني عشر نقيبًا، ليكونوا على قومهم بما فيهم، فسمَّوا له تسعة من الخزرج، وثلاثة من الأوس، ثم قال لهؤلاء النقباء «أنتم على قومكم بما فيهم كفلاء، ككفالة الحواريين لعيسى بن مريم، وأنا كفيل على قومي – يعني المسلمين- قالوا نعم»(10)، وتم الوفاق، وعاد الأنصار إلى يثرب، وهم في أحسن حال، ثم انتشر الخبر وعم البشر وعظمت الآمال.
الإذن بالهجرة:
وبدأ الإذن والتوجيه من الرسول (صلى الله عليه وسلم) للمسلمين بالهجرة إلى يثرب؛ لاعتبارات عديدة، فقد أُوذوا في عقيدتهم، وحوربوا في ثرواتهم، وصاروا في احتياج إلى بيئة جديدة، خاصة أن الحِراك الاجتماعي في أم القرى قد تأثر من نواتج انقسام المكيين إلى فريقين: الأقوى عددًا ونفوذًا والأضعف عقيدة وإيمانا، هذا الذي يمثله المشركون، أما المسلمون فهم الفريق الثاني، وكان أغلبهم ضعفاء وفقراء، وكانت عقيدتهم أقوى من الحديد، ويحتاجون إلى سند قوي، وليست لديهم شوكة ومنعة كافية، فكان الشروع في الاتجاه إلى يثرب، والإقامة بها وعبادة الله على أرضها، ففيها هدوء اجتماعي، ونشاط اقتصادي، ويمكن أن تهدأ بذلك نفوسهم، وتصفو قلوبهم للإيمان والعبادة في مجتمع المدينة، الذي كان مجتمعا مفتوحًا، وليس محكومًا بتراث قديم، كما هو الشأن في مكة، ففي ظلال تلك البيئة يستطيعون أن ينالوا قدرًا كبيرًا من الحرية في ظل تعاليم الإسلام، وقيادة الرسول (صلى الله عليه وسلم) لكل المهاجرين، الذين سيتخذون من يثرب وطنا إلى جوار الأنصار المقيمين بها، وكان المسلمون يخرجون أفرادًا وجماعات، خفية وجهرة، ولكن الأمر على عمومه قد أحدث تخوفا وقلقًا قرشيا من نقل الثروة مع المهاجرين إلى يثرب، هؤلاء الذين تركوا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان وكثيرًا من المال في منابتهم الأولى، متحملين عنتا ومشقة وجهدًا، ولكن الأمر على عمومه لا يساوي شيئا أمام حماية عقيدتهم، وتنامي الدعوة الإسلامية، وانتظار هجرة الرسول (صلى الله عليه وسلم) إلى يثرب، وزيادة قوته، وتهديد الشأن القرشي من عدة اعتبارات، وتضاءلت أعداد المسلمين في مكة، إيذانا بانبثاق فجر جديد.
وعرضت آيات كثيرة من القرآن الكريم لبيان منزلة المهاجرين الذين استجابوا لدعوة الرسول (صلى الله عليه وسلم) وهاجروا من مكة، ثم جاهدوا واستشهدوا، ابتغاء فضل الله ونصرة دينه ورسوله، قال تعالى:
"وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ" (الحج: 58)
وقال تعالى:
"لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ" (الحشر: 8)
والآية تبين استحقاق المهاجرين لأموال الفيء، حيث أجبروا على الخروج من ديارهم، لنصرة دين الله ونصرة رسوله، فهم الصادقون في إيمانهم وعزيمتهم.
شروع الرسول في الهجرة:
صار المسلمون المهاجرون الذين استقروا في المدينة في احتياج لوجود الرسول (صلى الله عليه وسلم) بينهم في هذا المجتمع الجديد، ولكن الأمر يحتاج إلى بعض الوقت، وأن خروج الرسول من مكة خاضع لبيان إلهي، يتحرك الرسول (صلى الله عليه وسلم) بمقتضاه، وأصبح الأمر على عمومه في حاجة إلى مزيد من التدبر وأخذ الحيطة والاستعداد للرحيل، وكان أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- مستهدفا ليكون رفيقا للرسول (صلى الله عليه وسلم) في الهجرة، وقد اتجه إلى الرسول، ليستاذنه في الرحيل، فقال له: «لا تعجل لعل الله يجعل لك صاحبا»(11)، والعبارة بها إشارة غير مباشرة إلى الصحبة المزمع تفعيلها في هجرة الرسول وصاحبه إلى يثرب الطيبة.
1- بدء الهجرة:
لم يكن المشركون في ارتياح لأن يهاجر الرسول دون علمهم، فلابد من التصرف معه بما يعيق المد الإسلامي إلى يثرب، ولهذا سعوا إلى التوافق في القضاء عليه وإماتة دعوته في مكة وخارجها، من خلال رأي توافقي يجتمعون له ويُجمعون عليه في دار الندوة، ولما التقوا وتشاوروا في أمر الرسول، وتعددت الآراء في تحديد مصيره كان الاتفاق على أن يقتلوه، ويحشدوا لذلك أربعين شابا، يمثلون القبائل المكية، ويترصدون له أمام بيته، فإذا ما خرج انقضوا عليه، فيتوزع دمه بين القبائل، وهذا ما جاءت دلالاته في قول الله تعالى:
"وَإذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ" (الأنفال: 30)
وقد نزلت هذه الآية في يوم الهجرة بعد اجتماع القوم في دار الندوة، وذكر ابن كثير -رحمه الله- أنها نزلت بعد قدوم النبي المدينة يذكر نعمه عليه وبلاءه عنده»(12).
ومعنى (لِيُثْبِتُوكَ): أي ليحبسوك أو ليسجنوك أو ليخرجوك بطريقتهم، إلى حيث لا يُعلم مكانه، وقوله: " وَيَمْكُرُونَ" وذلك بإخفاء المكايد له. والمكر: تدبر الأمر في خفية، ومعناه في حق الله تعالى حيث قالت الآية: "وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ" هو: جزاؤهم بالعذاب على مكرهم، من حيث لا يشعرون، إذ إن مكره سبحانه وتعالى أنفذ من مكر غيره، ولا يأمر إلا بما هو حق وعدل، ولا يصيب إلا بما هو مستوجب(13).
وقد أنبأ جبريل -عليه السلام- الرسول (صلى الله عليه وسلم) بألا يبيت في المكان الذي يبيت فيه، وأخبره بمكر القوم به.
2- خروج الرسول من بيته:
قبل أن يخرج الرسول (صلى الله عليه وسلم) من بيته أمر عليا – كرم الله وجهه- أن يبيت في فراشه، وأن يتسجى ببردته، وأن يبقى في مكة، حتى يرد الودائع إلى أصحابها، واعتمد الرسول (صلى الله عليه وسلم) على الله تعالى، وخرج من داره، باذلا كل الاحتياطات ليعمي وجهته على قريش. ثم انصرف إلى حيث أراد. وجاء إليهم من أخبرهم أن محمدًا قد انطلق لحاجته، واقتحموا المنزل فوجدوا أن النائم هو علي -رضي الله عنه-، فسألوه عن محمد فأخبرهم أنه لا يدري عنه شيئًا.
ومعنى قوله تعالى: "فَأَغْشَيْنَاهُمْ" أي غطينا أبصارهم، أو أعميناهم، والمعنى في قوله تعالى: "فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ" أي لا ينتفعون بخير، ولا يهتدون إليه، وشاع الخبر في مكة، وكان أبوجهل أشد الناس فزعًا وقلقًا، ولم يعد قادرًا على تحديد ما يسعى إليه.
3- الرسول وصاحبه في الغار:
يتواصل البيان القرآني في عرض أحداث الهجرة، حيث استقر الرسول (صلى الله عليه وسلم) وصاحبه أبو بكر الصديق في غار ثور، وهما يخضعان لتعقب ومتابعة واستهداف للإمساك بهما، وحجبهما عما يسعيان إليه، وليكن بعد ذلك ما يكون، ودخلا الغار، واختبآ فيه، واقترب الكفار من الوصول إليهما، ولم يفصلهم عن الإمساك بالرسول وصاحبه إلا خطوات، وينتهي بعدها كل شيء، وكان أبو بكر يخشى على الرسول ثم على نفسه، ويستشعر أن الأعداء على باب الغار، فقال للرسول (صلى الله عليه وسلم) «لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا، فطمأنه الرسول (صلى الله عليه وسلم)، ورد عليه بقوله: «يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما»(14).
وفي هذا الموقف المعبأ بالخوف والقلق وبالثقة في الله -تعالى- الذي أنزل على رسوله قوله تعالى:
"إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ۖ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ ۗ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ" (التوبة: 40)
ويبدو أن هذه الآية التي عالجت حالة الرسول مع صاحبه في الغار قد نزلت في زمن تالٍ، عندما عاتب الله تعالى بعض المسلمين على عدم النّفر مع الرسول في غزوة تبوك، مذكرا إياهم أنه قادر على نَصْره، كما نَصَره عندما كان مع صاحبه في الغار زمــن الهجـــرة، وقال لصاحبه مطمئنا إياه "لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا"، حيث أنزل الله سكينته وتأييده ونصره عليه، وعلى أبي بكر، ومعنى: "إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا" أي ناصرنا وحافظنا، وقوله تعالى: "وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا" أي أن النبي (صلى الله عليه وسلم) مؤيد بجنود من الملائكة، والكلمة السفلى هي كلمة الشرك والكلمة العليا هي «لا إله إلا الله» حيث كان الوعد بالنصر؛ والله عزيز في انتقامه وانتصاره وحكيم في أقواله وأفعاله.
وقد روى أنس -رضي الله عنه- قال: حدثني أبو بكر -رضي الله عنه- قال: «كنت مع النبي (صلى الله عليه وسلم) في الغار، فرأيت آثار المشركين، قلت يا رسول الله: لو أن أحدهم رفع قدمه رآنا. قال: ما ظنك باثنين الله ثالثهما»(15).
قال الشاعر:
وإذا العنايةُ لاحظتك عيونُها نمْ فالمخاوفُ كلُّهن أمانُ
وخرج الرسول وصاحبه من الغار، وشقا طريقهما في الصحراء ومعهما الدليل إلى يثرب، ووصل الركب الميمون إلى مشارف المدينة أو على مقربة منها، فكان النزول في ديار بني عمرو بن عوف.
4- إقامة المسجد في قباء:
عرضت سورة التوبة لإقامة الرسول (صلى الله عليه وسلم) لأول مسجد في الإسلام، وهو مسجد قباء، والذي نزل بشأنه قول الله تعالى:
"لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَىٰ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ ۚ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا ۚ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ" (التوبة: 108)
وأوردت هذه الآية بيان التأسيس على التقوى لهذا المسجد الذي يُعمَّر برجال مخلصين، يحبون التطهر من الذنوب والأرجاس، وذلك في مقابلة مسجد الضرار، الذي أقامه أهل النفاق، للتفريق بين المؤمنين، ومحاربة الله ورسوله، مع أنهم يحلفون كذبا أنهم ما أرادوا إلا الحسنى، وهم كاذبون فيما يقولون ويفعلون.
ويعد بناء هذا المسجد أول النتائج الإيجابية المثمرة لهجرة الرسول وأصحابه إلى المدينة المنورة.
5- المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار
لقد استقر الرسول (صلى الله عليه وسلم) في يثرب، التي صارت مدينة رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، ومعه أصحابه من المهاجرين والأنصار، وأسس بها المسجد النبوي، وصارت عنايته (صلى الله عليه وسلم) متجهة ومنصبة على إقامة مجتمع جديد، يتألف من المهاجرين والأنصار، الذين صاروا بنعمة الله إخوانًا، ويُضم إليهم في الإقامة الآمنة بالمدينة سائر الطوائف اليهودية، حيث اشتملت وثيقة المدينة التي وضعها وسجلها الرسول كلَّ هؤلاء مع اختلاف أنسابهم وأديانهم، حيث صاروا ذوي وطن واحد يحبونه، ويحافظون عليه من كل غاز ومغير، وقد صور القرآن الكريم العلاقة المتنامية على المحبة والطهر والنقاء بين المهاجرين والأنصار، وذلك في قول الله تعالى:
"وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" (الحشر: 9)
"وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ" هم الأنصار الذين استوطنوا المدينة قبل أن يصل المهاجرون إليها، وأخلصوا الإيمان، وجعلوه مستقرا وموطنا لقلوبهم، هؤلاء الذين "يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ" في ديارهم، ولا يحسدونهم على ما أعطوه من أموال الفيء وغيره.
والإيثار: تقديم الآخر، وتفضيله على النفس، وحظوظها الدنيوية، والإيثار بالنفس أعظم من الإيثار بالمال، "وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ" والخصاصة: «الحاجة التي تختل بها الحال»(16).
والشح والبخل سواء، و"الْمُفْلِحُونَ" هم الظافرون البريئون من الشح والتقتير، وذلك شأن المؤمن الذي يتقي الله، ويحسن إلى غيره بلا منٍّ ولا أذى.
إن هذه الآيات التي تقدم بيانها، والتي وردت في سور متعددة، وفي مواقف مختلفة عن هجرة الرسول وأصحابه من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، وما صاحب ذلك من دروس إيمانية متعددة، إلى جانب الآيات الأخرى، يكتمل منها جميعا البيان الشامل لكل المراحل والتحولات في أحداث الهجرة إلى المدينة المنورة.