حكام المحروسة ومشاهير دولة التلاوة
على مدى القرون والسنين، كان القراء يتلون القرآن فى المساجد وفى قصور الحكام وبيوت الأعيان وفى المآتم والمناسبات الاجتماعية، وجمع كثير منهم بين التلاوة وإمامة الصلاة،واهتم بهم الحكام،وخصصوا لهم مكانة متميزة.
وعلى سبيل المثل، فقد اهتم سلاطين الدولة الفاطمية فى مصر بالقراء اهتماما كبيرا،فأجزلوا لهم العطاء، ووفروا لهم مُخصصات مالية، وكان لهم مكانة رفيعة فى الاحتفالات التى يقيمونها. وبلغ صيت بعضهم أن المساجد التى قرأوا فيها عُرفت بأسمائهم، مثل مسجد ابن البناء الكائن بالقرب من باب زويلة، وذلك نسبة إلى القارئ ابن عمر بن أبى البناء الشافعي.
وكان القراء الذين يتلون القرآن فى قصور الحكام ويشاركون فى الاحتفالات الرسمية، يطلق عليهم قراء الحضرة الشريفة تمييزا لهم عن بقية القراء، كان هؤلاء يقرأون القرآن فى حضرة الخليفة فى مجلسه، ويحوطون موكبه فى كل يوم جمعة من شهر رمضان عند ذهابه للصلاة وإلقاء الخطبة. قاموا أيضا بالقراءة فى الاحتفال بذكرى المولد النبوى فى الأزهر الشريف، ويوم عاشوراء فى مسجد الحسين، وفى مناسبات العزاء الكبرى.
استمرت هذه التقاليد فى العهود التالية، فاهتم الحكام بقُراء القرآن. وفى العصر الحديث، حرص الوالى محمد على على تلاوة القرآن فى قصور الأمراء والأعيان وقادة الجيش، واشتهرت فى أيامه قارئة القرآن أم محمد التى أعجب الوالى بصوتها وأرسلها لقراءة القرآن فى عاصمة الخلافة إسطنبول، واستمر خلفاؤه فى رعايتهم لقراء القرآن.
فى عشرينيات القرن الماضي، ومع ظهور تكنولوجيا التسجيل الصوتى وإنشاء عدد من الإذاعات الأهلية، ذاع صيت قراء القرآن.وأسهمت الإذاعة المصرية اللاسلكية التى افتتحت فى 31 مايو 1934، فى تعريف المصريين بأسماء وأصوات المقرئين فيها، مثل محمد رفعت الذى كان صوت تلاوته أول ما افتتحت به الإذاعة فقراتها.وكان من بين هؤلاء سيدات، من أشهرهن منيرة عبده وكريمة العدلية ونبوية النحاس. واستمر هذا الوضع حتى عام 1939، عندما افتى بعض المشايخ بأن صوت المرأة عورة ولا يصح لها تلاوة القرآن فى الإذاعة، فتوقف بث التسجيلات الخاصة بهن. وفى عهد الملك فاروق،أمرت الحكومة أصحاب المحلات التى تمتلك أجهزة الراديو بإذاعة القرآن الكريم، ووضعت الميكرفونات على أسوار القصور الملكية لبث القرآن طوال شهر رمضان، وأقيمت السرادقات فى الميادين والساحات لقراءة القرآن والتواشيح الدينية فى هذا الشهر، وكان الشيخ مصطفى إسماعيل هو أحب الأصوات عند الملك، ولقب بقارئ القصر الملكي.
استمر اهتمام الدولة بعد ثورة 1952 بتلاوة القرآن، وعندما أنشئ المؤتمر الإسلامى عام 1955، كان من أهدافه إرسال المقرئين المصريين لتلاوة القرآن فى الخارج، ونظمت وزارة الأوقاف مسابقات تحفيظ القرآن،ثم أنشئ المجلس الأعلى للشئون الإسلامية عام 1960. وحرص الرئيس جمال عبدالناصر على دعوة كبار المقرئين للتلاوة فى بداية المناسبات الرسمية، وكان منها افتتاح العمل فى بناء السد العالى وزيارة الزعيم السوفيتى نيكيتا خروتشوف فى عام 1964، وشارك فيه الشيخان مصطفى إسماعيل وعبدالباسط عبدالصمد. وجدير بالذكر، أن الأول حافظ على مكانته لدى الدولة، فمنحه الرئيس عبدالناصر وسام الاستحقاق فى عيد العلم عام 1965، وحصل على وسام الامتياز من الرئيس مبارك عام 1985.
سافر القراء المصريون إلى مختلف دول العالم لتلاوة القرآن وخصوصا فى شهر رمضان،وتلقى كبار المقرئين دعوات من الحكومات والجاليات الإسلامية لزيارة بلادهم. ومن ذلك، أن الشيخ أبو العينين شعيشع تلا القرآن فى المسجد الحرام بمكة، والمسجد الأقصى بالقدس والمسجد الأموى بدمشق. وان الحكومة العراقية دعته فى عام 1950للقراءة فى مأتم الملكة عالية ومنحته وسام الرافدين. وربما كان أشهر قراء دولة التلاوة سفرا إلى الخارج وقراءة فى مساجد دول العالم، هما الشيخين محمود خليل الحصرى وعبدالباسط، واللذين سافرا إلى عدد كبير من الدول العربية والآسيوية والأوروبية وأمريكا، وقرأ الحصرى القرآن فى إحدى قاعات مبنى الكونجرس.
شهد يوم 25 مارس من عام 1964 ـــ أى منذ ستين عاما ـــ حدثا فريدا فى تاريخ دولة التلاوة.ففى تمام الساعة السادسة من صباح هذا اليوم، تم افتتاح إذاعة القرآن الكريم، وكانت أول إذاعة من نوعها فى العالم الإسلامي،وكان أول بث لها تلاوة قرآنية بصوت الشيخ الحصرى شيخ عموم المقارئ المصرية. وأشير هُنا إلى أنه حتى منتصف القرن العشرين لم يكن هناك تسجيل صوتى كامل للقرآن فى أى مكان فى العالم، وإنما وجدت تسجيلات متفرقة لبعض القراء. وفى بداية الستينيات، وفى أعقاب ظهور طبعة محرفة من القرآن فى مصر، قررت الحكومة تسجيل القرآن كاملا، فكان أول مصحف صوتى مرتل بصوت الشيخ الحصري، تم تسجيله على أسطوانات وتوزيع ملايين النسخ منهاعلى الدول العربية والإسلامية وكل أرجاء العالم. ورغم دخول برامج وأحاديث فى الإذاعة، فما زالت تلاوة القرآن وفقا لرواية حفص عن عاصم هى المكون الرئيسى لأغلب ساعات بثها،بأصوات الشيوخ مصطفى إسماعيل، ومحمود خليل الحصري، ومحمد صديق المنشاوي، وعبدالباسط عبد الصمد، ومحمود على البنا، مع بث فقرات بصوت الحصرى وفقا لروايات ورش عن نافع،وقالون عن نافع، والدورى عن أبى عمرو البصري، إضافة إلى القرآن المجود بأصوات عدد كبير من القراء. بلغت دولة التلاوة المصرية ذروتها فى ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، فقد اجتمع فى هذا الوقت عدد من أصحاب الحناجر الذهبية الذين تميز كل منهم بسمة فريدة. وحسب قول الشيخ محمد متولى الشعراوي، فقد اتسم الحصرى بإحكام التلاوة، وعبدالباسط بحلاوة الصوت، ومصطفى إسماعيل بالنفس الطويل مع العذوبة، أما إذا أردت أن تجمع بين الثلاثة فعليك بالعودة إلى صوت محمد رفعت.