حادثة الإفك واتهام أم المؤمنين عائشة (رضي الله عنها) .. الحكمة الإلهية
جاءت محنة الإفك منطويةً على حكمةٍ إلهيَّةٍ استهدفت إبراز شخصيَّة النَّبيِّ(ﷺ) ، وإظهارها صافيةً مميَّزةً عن كلِّ ما قد يلتبس بها، فلو كان الوحي أمراً ذاتيّاً غير منفصلٍ عن شخصيَّة الرَّسول(ﷺ) ؛ لما عاش الرَّسول(ﷺ) تلك المحنة بكلِّ أبعادها شهراً كاملاً، ولكن الحقيقة الَّتي تجلَّت للنَّاس بهذه المحنة أن ظهرت بشرية الرَّسول(ﷺ) ونبوَّته، فعندما حسم الوحي اللَّغط الَّذي دار حول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها؛ عادت المياه إلى مجاريها بينها وبين الرَّسول(ﷺ) ، وفرح الجميع بهذه النَّتيجة بعد تلك المعاناة القاسية، فدلَّ ذلك على حقيقة الوحي، وأنَّ الأمر لو لم يكن من عند الله تعالى؛ لبقيت رواسب المحنة في نفس رسول الله(ﷺ) بصفةٍ خاصَّةٍ، ولانعكاس ذلك على تصرُّفاته مع زوجته عائشة رضي الله عنها، وهكذا شاء الله أن تكون هذه المحنة دليلاً كبيراً على نبوَّة محمَّدٍ(ﷺ). (السِّيرة النَّبويَّة في ضوء المصادر الأصلية، ص 441)
حدُّ القذف وأهمِّيته في المحافظة على أعراض المسلمين
كان المجتمع الإسلاميُّ يتربَّى من خلال الأحداث، فعندما وقعت حادثة الإفك أراد المولى – عزَّ وجلَّ – أن يشرِّع بعض الأحكام الَّتي تسهم في المحافظة على أعراض المؤمنين، ولذلك نزلت سورة النُّور، الَّتي تحدَّثت عن حكم الزَّاني والزَّانية، وعن قبح فاحشة الزِّنى، وعمَّا يجب على الحاكم أن يفعله إذا ما رمى أحد الزَّوجين صاحبه، وعن العقوبة الَّتي أوجبها الله على الَّذين يرمون المحصنات، ثمَّ لم يأتوا بأربعة شهداء، إلى غير ذلك من الأحكام. (حديث القرآن الكريم (1/357)
إنَّ الإسلام حرم الزِّنى، وأوجب العقوبة على فاعله، وقد حرَّم أيضاً كل الأسباب المسبِّبة له، وكلَّ الطُّرق الموصلة إليه؛ ومنها إشاعة الفاحشة، والقذف بها؛ لتنزيه المجتمع من أن تسري فيه ألفاظ الفاحشة، والحديث عنها؛ لأنَّ كثرة الحديث عن فاحشة الزِّنى وسهولة قولها في كلِّ وقتٍ يهون أمرها لدى سامعيها، ويجرِّئ ضعفاء النُّفوس على ارتكابها، لهذا حرَّمت الشَّريعة الإسلاميَّة القذف بالزِّنى، وأوجبت على من قذف عفيفاً، أو عفيفةً، طاهراً، أو طاهرةً، بريئاً، أو بريئةً من الزِّنى، حدَّ القذف، وهو الجلد ثمانون جلدةً، وعدم قبول شهادته إلا بعد توبته توبةً صادقةً نصوحاً. (آثار تطبيق الشَّريعة، محمد الزَّاحم، ص 117)
اقرأ أيضا:
مفاتيح أبي جهل !
كيف تحب نبيك صلى الله عليه وسلم !
هذا وقد أقام رسول الله(ﷺ) حدَّ القذف على مِسْطحٍ، وحسَّانَ، وحمنةَ، وروى محمَّد بن إسحاق، وغيره: أنَّ النَّبيَّ (ﷺ) جلد في الإفك رجلين، وامرأة: مسطحاً، وحسَّاناً، وحمنة. وذكره التِّرمذيُّ. [الترمذي (3181)، ولم يُصرِّح بذكر الأسماء، وقد صرَّح بها أبو داود (4475)].
قال القرطبيُّ: والمشهور من الأخبار، والمعروف عند العلماء: أن الَّذي حُدَّ حسانُ، ومسطحٌ، وحمنةُ، ولم يُسْمَع بحدٍّ لعبد الله بن أُبَيٍّ، وقد وردت آثار ضعيفةٌ تدل على أنَّ عبد الله بن أُبَيٍّ أقيم عليه الحدُّ، ولكنَّها كلَّها ضعيفةٌ لا تقوم بها حجَّة.
وقد ذكر ابن القيِّم وجه الحكمة في عدم حدِّ عبد الله بن أبيٍّ، فقال:
قيل: لأنَّ الحدود تخفيفٌ عن أهلها، وكفارةٌ، والخبيث ليس أهلاً لذلك، وقد وعده الله بالعذاب العظيم في الآخرة، ويكفيه عن الحدِّ.
وقيل: كان يستوشي الحديث، ويجمعه، ويحكيه، ويخرجه في قوالب من لا ينسب إليه.
وقيل: الحدُّ لا يثبت إلا ببيِّنةٍ، أو إقرارٍ، وهو لم يقرَّ بالقذف، ولا شهد به عليه أحدٌ، فإنَّه كان يذكره بين أصحابه، ولم يشهدوا عليه، ولم يكن يذكره بين المؤمنين.
وقيل: بل ترك حدَّه لمصلحةٍ هي أعظم من إقامته عليه، كما ترك قتله مع ظهور نفاقه، وتكلُّمه بما يوجب قتله مراراً، وهي تأليف قومه، وعدم تنفيرهم من الإسلام.
ثمَّ قال – في ختام كلامه -: ولعلَّه ترك لهذه الوجوه كلِّها. (زاد المعاد (3/263، 264)
اعتذار حسان رضي الله عنه للسيدة عائشة رضي الله عنها
قد بيَّنت الرِّوايات: أنَّ من خاض في الإفك قد تاب – ما عدا ابن أبيٍّ – وقد اعتذر حسَّان رضي الله عنه عمَّا كان منه، وقال يمدح عائشة رضي الله عنها بما هي أهلٌ له:
رَأيتُكِ وَلْيَغْفِرْ لَكِ اللهُ حُرَّةً مِنَ المُحْصَنَاتِ غَيْرَ ذَاتِ غَوَائِلِ
حَصَانٌ رَزَانٌ مَا تُزَنُّ بِرِيْبَة وَتُصْبِحَ غَرْثَى مِنْ لُحُوْمِ الغَوَافِلِ
وَإِنّ الَّذي قَدْ قِيْلَ لَيْسَ بِلاَئِق بِكِ الدَّهْرَ بَـلْ قَـوْلُ امْرِئ مُتَناحِلِ
فَإنْ كُنْتُ أَهْجُوكُمْ كَمَا بلَّغُوكُمُ فَلاَ رَفَعَتْ سَوْطِي إليَّ أَنَامِلِي
فَكَيْفَ وَوُدِّي مَا حَيِيْتُ وَنُصْرَتِي لآلِ رَسُوْلِ اللهِ زَيْنُ المَحَافِلِ
وَإِنَّ لَهُمْ عِزّاً يَرَى النَّاسُ دُوْنَهُ قِصَاراً، وَطَالَ العِزُّ كلَّ التَّطاوُلِ
من الأحكام المستنبطة في غزوة بني المصطلق
جواز الإغارة على مَنْ بلغتهم دعوة الإسلام دون إنذارٍ.
منها: صحَّة جعل العتق صداقاً، كما فعل(ﷺ) مع جويرية بنت الحارث في هذه الغزوة.
ومنها: مشروعية القرعة بين النِّساء عند إرادة السَّفر ببعضهن.
ومنها: جواز استرقاق العرب، كما حدث في الغزوة، وهو قول جمهور العلماء. (كتاب الأم، للشَّافعي، 4/186).
وقد أجمع العلماء قاطبةً على أنَّ من سبَّ عائشة رضي الله عنها بعد براءتها براءةً قطعيَّة بنصِّ القرآن، ورماها بما اتُّهمت به؛ فإنه كافرٌ؛ لأنه معاندٌ للقرآن.
ومن الأحكام الَّتي عرفت في هذه الغزوة حكم العزل عن النِّساء، حيث سأل الصَّحابة الرَّسول(ﷺ) عنه، فأذن به، وقال: «ما عليكم ألا تفعلوا، ما من نسمةٍ كائنةٍ إلى يوم القيامة إلا وهي كائنةٌ» [البخاري (5210)، ومسلم (1438/125)، وأحمد (3/68 و72). (السِّيرة النَّبويَّة الصَّحيحة، للعمري (2/415). فذهب الجمهور إلى جواز العزل عن الزَّوجة الحرَّة بإذنها.
ونزلت آية التَّيمُّم في هذه الغزوة؛ تنويهاً بشأن الصَّلاة، وتنبيهاً على عظيم شأنها، وأنَّه لا يحول دون أدائها فقدُ الماء، وهو وسيلةُ الطَّهارة الَّتي هي أعظم شروطها، كما لا يحول الخوف، وفقدُ الأمن من إقامتها. (صورٌ وعبرٌ من الجهاد النَّبويِّ في المدينة، ص 210، 211).