السير على الأقدام اختبار فلسفي لمفهوم الحرية واستكشاف لمعاني المكان
باسكال تابت
باحثة أكاديمية في الفلسفة والأدب
لعل أزمة عالمنا المعاصر تكمن في محدودية أفقه وضيقه. فعلى رغم انفتاحنا على العالم بأسره من خلال تطور وسائل أو شبكات التواصل الاجتماعي المستمر والتطور التكنولوجي السريع، نبقى مأسورين ومحدودين في مكان وزمان خاضِعَين للهندسة والقياس. من غرفة ضيقة، ومن خلال شاشة صغيرة، نطل على عالم وهمي تبقى الشاشة حاجزاً بيننا وبينه، كما تبقى حجاباً للفكر الذي يختبر أمامها محدوديته، فنعيش على مسافة من الأشياء من دون لقاء فعلي يلمس داخلانيتنا. في ظل هذه الأزمة، شدد بعض الكتاب وعلماء النفس والفلاسفة على أهمية المشي الذي ليس مجرد رياضة كما يقول الكاتب الفرنسي المعاصر فريدريك غرو في بداية كتابه "المشي: فلسفة". فالسير على الأقدام يحرر الإنسان المعاصر ويشكل خلاصاً له، إذ يفكك القيود الاجتماعية والحواجز التي تحول دون لقائه مع نفسه ومع الطبيعة المحيطة به. فالمشي معنى واختبار لمفهوم فلسفي شغل الفلاسفة منذ القديم وما زال يشغلهم، وهو مفهوم "الحرية".
اشتهر الكثير من الفلاسفة والأدباء – من أبرزهم كانط وروسو ونيتشه وثورو – بممارسة المشي التي أصبحت عادة لديهم اعتبروها أساسية لكتاباتهم ولأفكارهم بأبعادها المختلفة. يقول الكاتب الأميركي هنري ديفد ثورو، على سبيل المثال، أن "لا جدوى من الجلوس للكتابة إن لم نقف لنعيش"، ويقول نيتشه في "أفول الأصنام" إن "وحدها الأفكار التي تأتينا ونحن ماشون لها قيمة ما". وفي العصور القديمة كان تلامذة أرسطو يسمونه "المشاء" لأنه كان يعلم الفلسفة وهو يمشي، وأُطلِق على المدرسة الفلسفية التي استمدت أفكارها منه اسم "المدرسة المشائية".
شكل من أشكال الفلسفة
يعرض فريدريك غرو في كتابه المذكور أعلاه مجموعة تأملات فلسفية حول المشي، ويذكر عدداً من المفكرين الذين تطرقوا إلى هذا الموضوع ومارسوا عادة المشي في حياتهم اليومية. ويذكر أيضاً أنواعاً مختلفة من المشي منها رحلات الحج والنزهات والتسكع وغيرها، مشدداً على الأبعاد الروحية لهذه الممارسة. والأبرز أنه يقدم في هذا الكتاب معنى للفلسفة مختلفاً عن معناها التقليدي؛ فهي ليست مجرد مجموعة من المفاهيم والمصطلحات وتحذلقاً، ولكنها تأمل يلتقي فيه الجسم بالنفس. فالمشي شكلٌ من أشكال الفلسفة، إنه ممارسة روحية، نوع من التقشف الذي يجعلنا نعود إلى ما هو جوهري، لأن فيه تخلي عن المادة وعن الزخرفة وعن كل ما يلبي رغبات الإنسان السطحية والمادية إذ لا يعود لها فائدة هنا. يكتب فريدريك غرو أن في المشي، حتى عندما يكون الإنسان وحده، يوجد "حوار بين الجسم والنفس"، مضيفاً: "بمجرد أن أمشي أصبح في الحال اثنين". فالذات تلتقي مع ذاتها وكأنها تسير مع سير الأقدام نحو ذاتها. واعتبر ثورو، في القرن التاسع عشر، أن المشي يجعلنا نعود إلى ذاتنا، "ننزل" في ذاتنا. فالسير على الأقدام مسيرة نحو الذات، إنه استكشاف ليس فقط للمكان وللمشاهد الطبيعية ولكن للذات عينها. يبدأ هذا الاستكشاف مع حركة الجسم لينتهي في عمق أعماق السائر.
يشدد غرو على هذا الرابط القوي جداً بين الفلسفة والمشي. فكما أن الفيلسوف في علاقته مع المفاهيم يطرح إشكاليات ويعبرها ويسكنها ويتوقف عليها فتبدو وكأنها تقاطع طرق، كذلك يدخل من يمشي في علاقة مع المشاهد الطبيعية التي يعبرها ويسكنها كما تصبح هي أيضاً داخل كيانه، جزءاً منه. بالتالي، لا يعود المكان خارج الذات بل يسكن جسد من يسير فيه على الأقدام، فيدخل هذا الأخير في ألفة مع الطبيعة المحيطة به، تشبه ألفة الفيلسوف مع مفاهيمه ومصطلحاته. كما أنه يوجد في المشي عبور وليس مجرد تأمل جامد لمشهد أو للوحة خارجية، وكأن السير على الأقدام يقتلع الجسم من الجاذبية.
الطريق والدرب
في كتابه "الخلود" يميز كونديرا بين الطريق route والدرب chemin. للطريق غاية، هدف براغماتي، إذ يجعلنا نعبر من نقطة إلى أخرى، فيه نقطة انطلاق ونقطة وصول وانتظار؛ أما الدرب فهو عبور للمكان يتسع فيه الأفق. لا تُحسَب فيه نقطة انطلاق ووصول، بل فيه إجلال وتكريم للطبيعة. في الدرب تأمل وَوَحي إذ يكشف عن الفضاء أو الأفق الذي يقطنه الإنسان. ويعتبر كونديرا أن ليس للطريق معنى بذاته بل وظيفة، في حين أن للدرب معنى. يمكننا القول هنا إن هذا المعنى يختلف عن المعاني التي يعطيها الفكر للأشياء وللموضوعات، وعن التحديدات التي يبقى الفكر مُنتِجها وأسيرها، ولكنه معنى وجودي غير محدود بالعقلانية وبشروطها وبقواعدها وبقوانينها. إنه معنى داخلي يشعر به الإنسان ويدركه في عمق جسده وروحه، معنى يلمس كيان الإنسان من خلال الحَدس لِيُدرِك ذاته كجزء من هذه الطبيعة المحيطة به، بل لِيَختبر الطبيعة التي تسكن كيانه وهو يتحد بها فيتحرر. يقول غرو في هذا الإطار: "في الأرض، يسكن الإنسان كسائر. عندما يطوف العالم على الأقدام، وإن لساعات قليلة أو لأيام قليلة، يراه بشكل مختلف جداً، ويرى ذاته كآخر".
في المشي معنى واختبار لمفهوم فلسفي شغل الفلاسفة منذ القديم وما زال يشغلهم، وهو مفهوم "الحرية". يعيش السائر قطيعة مع قيود العالم المادي الذي يأسره، ومع الحضارة وأقنعتها التي جعلت الإنسان غريباً عن حالته الأولى وعن شفافية داخلانيته. يعتبر غرو أن "النفس (...) ترافق الجسم بمعنى أن المرافقة هنا هي نقيض الإرادة"، أي أن تزامناً يوجد بين إيقاع النفس وإيقاع الجسم والعالم، فيعود الإنسان إلى ما هو أصلي، أولي، كالهواء والسماء ليستقبل طاقة استلبتها العادات والمادة والمجهود الذي يقوم به الإنسان للتأقلم مع متطلبات العالم. فلا يعود أسير السرعة وأسير الزمن الذي يصبح مع حركة الجسم في الطبيعة انعكاسياً. من هنا يعتبر غرو أن الإنسان يختبر الأبدية في المشي لأن الزمن يصبح أبطأ؛ تطول اللحظة لتتخطى الوقت.
في هذا الإطار، يقول الكاتب أن "المشي دعوة إلى الموت وقوفاً"، إنه دعوة ليسير الإنسان ببطء في قلب عالم مُبرمج. ويشدد غرو في كتابه، على الوحدة والصمت اللذين يختبرهما السائر. الوحدة هنا ليست إكراهاً وعزلة، بل هي تفكك ضروري لبعض الروابط الاجتماعية والتقنية من أجل أن يعود الإنسان إلى ذاته، إلى الصمت الذي ليس مجرد غياب الضجيج، بل هو "ذبذبة"؛ إنه نبض الجسم في انتظام مجهوده. واللافت أيضاً هو التمييز الذي يقوم به غرو بين الرتابة monotonie والملل ennui. في حالة الملل لا يعرف الإنسان ماذا يفعل، إنه يكرر الشيء نفسه، ولكن من دون هدف ومن دون أمل، إنه في انتظار شيء يجهله، كما يشعر بالوقت وكأنه فراغ وثقل. أما الرتابة فهي أن يقوم الإنسان بالشيء نفسه وهو يعرف تماماً الغاية من ذلك.
في الرتابة تكرار يحرر. عندما يمشي الإنسان يضع قدماً أمام القدم الأخرى، وتتكرر هذه الحركة في رتابتها التي يشبهها غرو بالتنفس الذي يتغذى من ذاته. وفي هذا التكرار مكافأة إذ يعيش السائر في ألفة مع الطبيعة ومع جسده في قلب زمانية لا ملل فيها. ويستعيد غرو هنا مفهوماً استخدمه الأبيقوريون وهو مفهوم "الامتنان". فالسائر "يستقبل" جمال الطبيعة ويتلقاه كعطية ومكافأة بعد مجهود كبير قام به وكأن هذا الجمال موجه إليه تحديداً ويخاطبه، فيشعر بالامتنان، بنوع من الامتنان المتحرر من العبودية والاستعباد ورد الجميل. فالـمسافة التي يعبرها الإنسان سيراً على الأقدام تُصبح في قلب جسده وليس فقط مجرد مشهد خارجي ممتع. ويحل التعب كعطية ومكافأة. يعطي غرو هنا مفهوماً جديداً للتعب. ليس التعب هنا فكرياً نتيجة مجهود فكري قام به الإنسان، ولا هو تعب ناجم عن القلق والخوف والضغوط النفسية وضغوط الحياة بمختلف أشكالها، ولا هو تعب سببه الآخرون أو حياة لا مفاجآت فيها، بل هو تعب مرتبط برتابة الخطوات، "يجلو الجسم" الذي يرتاح وينام على أقدام النفس بحسب تعبير الكاتب.
ــــــــــــــــــــــــــ