القدس موطن الأنبياء ومسرى الرسول [صلى الله عليه وسلم]

القدس أو مدينة "إيلياء" حسب ما ورد في العهدة العمرية، أرض الأنبياء والمرسلين وموضع ظهور دعوتهم إلى التوحيد. فيها كلم الله سيدنا موسى وفي أرضها غفر الله لداود وسليمان. وبين ظهرانيها بشر الله سيدنا زكرياء بيحيى. وفيها ينزل مرة أخرى عندما يأذن الحق بذلك اعتبرت مدينة مقدسة منذ القدم. وزادها تقديسا إسراء رسولنا العظيم إليها. ومعراجه إلى السماء منها. فهي مدينة مباركة. بارك الله حولها. وهي القرية التي عنتها الآيات القرآنية الكريمة التي تقول. "وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة تغفر لكم خطيآتكم وسنزيد المحسنين" "يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم، ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين" "ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين".
لقد كانت تسمى بأرض "ايلياء" حتى زمن الفتح الإسلامي في عهد الخليفة الأول سيدنا عمر بن الخطاب.
حيث سميت بالقدس. وفي عهد الأتراك العثمانيين صار يطلق عليها القدس الشريف.
وسميت القدس بهذا الاسم أو ببيت المقدس لأنها المكان الطاهر المقدس الذي فيه من الذنوب. فهي مكان التطهير. وهي موطن التقديس. والتقديس هو التطهير كما ورد في غريب الحديث: لاقدست أمه لا يوخذ لضعيفها من قويها أي لاطهرت.
فتحها المسلمون في السنة السابعة للهجرة (636م) وتسلم مفاتيحها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب بيده من يد (صفرونيوس) بعدما حاز هذا الأخير وثيقة الآمان التي تدعى بالعهدة العمرية.
ولقد ورد في هذه العهدة حسبما أورده ابن جرير الطبري ما يلي:
"بسم الله الرحمان الرحيم: هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل "إيلياء" من الأمان. أعطاهم أمانا لأنفسهم وأموالهم ولكنائسهم وصلبانهم. وسقيمها وبريئها وسائر ملتها أن لا تسكن كنائسهم، ولا تهدم ولا ينتقص منها ولا من حيزها ولا من صليبهم، ولا من شيء من أموالهم، ولا يكرهون على دينهم، ولا يضار أحد منهم، ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود إلى آخر ما جاء في هذه العهدة التي شهد عليها خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعبد الرحمان بن عوف ومعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهم أجمعين.
ومنذ ذلك الحين والقدس الشريف تحت إمرة العرب المسلمين. سواء في عهد الأمويين أو العباسيين أو الأتراك السلجوقيين أو المماليك أو العثمانيين باستثناء فترة الحروب الصليبية التي احتلها فيها الصليبيون بعد ما قتلوا تسعين ألفا من سكانها. ولم يفكها ويحررها منهم إلا صلاح الدين الأيوبي الذي انتصر على الصليبيين في موقعة خطين ودخل القدس يوم 27 رجب سنة 583هـ - 1187م.
ولقد اختلف في أول من بناها فقيل هو "سام" الملقب "بمليصادف" أو "إيلياء" حفيد "ملكيصادف" أو اليبوسيون وهم بطن من بطون العرب الأوائل.
وكيفما كان الأمر. فهي مدينة عربية منذ تأسيسها.
أما بيت المقدس فلقد شرفه الله وكرمه وطهره وخصه بالعديد من الأنبياء والمرسلين منذ عهد إبراهيم الخليل عليه السلام إلى عيسى بن مريم إلى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال عبد الله بن عباس. البيت المقدس. بنته الأنبياء. ما فيه موضع شبر إلا وقد صلى فيه نبي. أو قام فيه ملك.
لقد دام حكم المسلمين للقدس الشريف أزيد من ثلاثة عشر قرنا. عاش فيه المتساكنون على اختلاف ديانتهم في بحبوحة من الكرامة والحرية والمعاملة بالحسنى وكيف لا يطبق المسلمون ذلك وقد أعطى خليفتهم الأول عمر بن الخطاب عهده وذمته وذمة المسلمين بأن تبقى للنصارى حرمتهم. وتصان مقدساتهم. وليس صحيحا ما يدعيه اليهود من أن القدس ملك لهم. وعاصمتهم الأبدية. فما يطلق عليه أرض "أورشليم" خربت واندثرت. ولم يبق لها أي أثر. ولقد تنبأ بهذا الخراب المسيح عليه السلام حين قال: "يا أوردشليم، يا أورودشليم يا قاتلة الأنبياء. وراجمة المرسلين إليها. هو ذا بيتكم يترك لكم خرابا" لقد كان العبرانيون يقصدونها فاتحين فترات متعددة قبل ميلاد المسح عليه السلام. ولكنهم يطردون منها. ولدى فتح المسلمين لها اشترط المسيحيون أثناء تسليمها أن لا يسكنها يهود كما ورد في العهدة العمرية ولكنهم بعد الفتح الإسلامي صاروا يفدون عليها بقصد الزيارة والعبادة التي حرموا منها أيام الحكم الروماني. ثم بعد انتصاب محاكم التفتيش في بلاد الأندلس هاجر الكثيرون منهم إلى المغرب لاجئين محتمين بالتسامح الإسلامي وهاجر آخرون إلى الشرق العربي وإلى القدس الشريف بالذات. ونظرا لأن الإسلام يوصي بمعاملة أهل الكتاب بالحسنى. فلقد فسحوا لهم المجال . وسمحوا لهم بالإقامة وحرية العبادة. مثل ما عملوا النصارى سواء بالإقامة وحرية العبادة. مثل ما عاملوا النصارى سواء بسواء. وهكذا صاروا يشتغلون كبقية المواطنين. بل أسند إليهم بعض الخدمات في المسجد الأقصى نفسه كعمل الأقداح والثريات والقناديل مقابل أن لا تؤخذ منهم حرية وهكذا أثبت الحكم العربي الإسلامي أنه يحترم ذوي الديانات جميعهم. مراعيا ذمتهم. غير مفرق بين الأنبياء وبين مختلف أتباعهم. سواء من اليهود أو النصارى. بعكس ما وقع لهم مع الرومان الذين حرموا عليهم المدينة. وقضوا حتى على أمكنة عبادتهم.
إن المسلمين عندما دخلوا إلى البيت المقدس. كانوا واعين كل الوعي أنه مكان التقديس والتطهير والتبجيل. جاعلين نصب أعينهم الحديث الذي رواه الإمام السيوطي في الجامع الصغير عن زهير بن محمد بلاغا عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أن الله تعالى بارك ما بين العريش والفرات. وخص فلسطين بالتقديس".
لقد كان المسلمون من مختلف أنحاء العالم يمرون أثناء قصدهم أداء فريضة الحج أو سنة العمرة بالقدس الشريف. حيث يهلون من المسجد الأقصى. مستجيبين للحديث الشريف الذي روته أم سلمة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أهل بحجة أو عمرة من المسجد الأقصى غفر الله له ما تقدم من ذنبه. رواه أبو داود.
والمغاربة بدورهم كانوا يقصدون المسجد الأقصى أثناء ذهابهم إلى الديار المقدسة لأداء فريضة الحج. بل أن الكثيرين منهم كانوا يقطنون ويجاورون بجانبه. حتى أصبح لهم حي من الأحياء لازال يدعى حي المغاربة.
وإني أتى هنا بوصف لبيت المقدس والمسجد الأقصى كتبه الرحالة المغربي أبو عبد الله محمد بن محمد العبدري الحيحي الذي اغتنم فرصة ذهابه إلى الحج فزار عدة أقطار. كان من جملتها الديار الفلسطينية حررها الله وذلك ابتداءا من سنة 688هـ قال العبدري:
ثم وصلنا إلى البيت المقدس. زاده الله تعظيما. وألحقه مبرة دائمة وتكريما. مسجد الأنبياء وقبلتنا قديما. ومطلع الأولياء يطلعهم عظيما فعظيما. أحد المساجد التي إليها تعمل المطي. وتضاعف بها الحسنات لكل بر تقي، مصعد نبينا عليه السلام. إلى مستوى يسمع فيه صرير الأقلام. ومعراجه حين عسعس الظلام. إلى مناجاة الملك العلام. والقدس المقدس المنفى من الآثام. نجعة من راد ورى من حام. خفق برقه فوفق من شام. وتدفق فأفرق ذو الهيام. لو نطق محتجا بفضيلته الشام. لأفحم به العراق أيما إفحام.
والبلد مدينة كبيرة منيعة محكمة كلها من صخر منحوت على نشز غليظ. مقطوع بجهات الأودية. وسورها مهدوم. هدمه الملك الظاهر خوفا من استيلاء الروم عليها. وامتناعهم بها. والخراب فيها فاش. وليس لها نهر ولا بستان. وحواليها تلال مشرفة عليها. وبها كنيسة معظمة عند النصارى. يحجبونها في كل عام. وهي التي يزعمون أن فيها قبر عيسى عليه السلام إلخ...
وأما المسجد الأقصى. فهو من المساجد الرائقة العجيبة. المنشرحة الفسيحة وهو متسع جدا. طولا وعرضا. وذكر أبو عبيد البكري، أن طوله سبعمائة واثنان وخمسون ذراعا بالمالكي. وهو ثلاثة أشبار. وطوله من الجنوب إلى الشمال وعرضه أربعمائة وخمس وثلاثون. وهو من الشرق إلى الغرب. وله أبواب يدخل منه الإمام. وذكر بعض الناس أن عددها خمسون بابا. والمسجد كله فضاء غير مسقف إلا الناحية الغربية. فهناك مسجد مسقف في نهاية الإحكام وإتقان العمل. وفيه تزويق كثير. وتذهيب رائع مليح إلى أن يقول:
وفي وسط فضاء المسجد. قبة الصخرة. وهي أعجب المباني الموضوعة في الأرض. وأتقنها وأغربها. قد نالت من كل حسن بديع أوفر حصة. وتلت من الإتقان ظاهره ونصه. وتجلت في جمالها الرائع كعروس حسنة جليت على منصة. قامت متبرجة على بقاع. تصرح وتلوح بالإعراب والإبداع. وتفصح بما يشرح عن فضيلة الصناع. حسنها الأول فاستحسنها الآخر وانعقد الإجماع. تنازع الكمال منها الظاهر والباطن. لما سلما معا من كل عائب وشائن. واجتمعت في كيليهما أشتات المحاسن إلى أن يقول: وصفتها أنها قبة مثمنة على نشز وسط المسجد. ويطلع إليها من رخام وقد أحاط بها أربعة أبواب. والدائر مفروش بالرخام المحكم الصنعة. وداخلها كذلك. وفي ظاهرها وباطنها من أنواع التزويق ما يقصر عنه الوصف. وأما الذهب. فما رأيته مبتذلا في شيء كابتذاله في هذه القبة. حتى لقد غشى به أكثرها ظاهرا وباطنا. فهي تتلألأ ساطعة الأنوار. كلمعان برق أو اشتعال نار. إلى آخر الوصف الدقيق للمسجد.
إن فلسطين والقدس بلاد عربية إسلامية. سكانها الأولون هم الكنعانيون وهم عرب أقحاح وحكامها بعد الفتح الإسلامي هم العرب المسلمون. فإذا ما ادعى الصهاينة أن فلسطين بلدهم فهم كاذبون. وإذا ما قرروا أن يجعلوا من القدس عاصمة أبدية لهم. فعلى المسلمين جميعا واجب تحريرها منهم.
لقد اعتدى الصهاينة على أرض فلسطين وغصبوها من أصحابها الشرعيين فعلى المسلمين أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم وجميع ما يملكون لافتكاكها. إن ارتباط المسلمين بالقدس والأقصى ارتباط أبدي. وأن تحريرها واجب عيني على كل واحد منهم. أن الجهاد لتحرير القدس واجب مقدس. وأن المرابطين فيها. المدافعين عنها مضمون لهم النصر إن شاء الله. فلقد روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لعدوهم قاهرين. لا يضرهم من خالفهم. ولا ملل أصابهم من اللأواء. حين يأتيهم أمر الله وهم كذلك. قال يا رسول الله: وأين هم؟ قال: ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس.
أسرى إليك محمد وعلى خطاه جميعنا نمضي صفوفا
لبيك من كل البنادق والخنادق فالرجال عزائم أبت الوقوفا
ومئاتنا بدمائها تروي ثراك فينبت السهل الألوفا
لبيك يا قدس السلام سلامنا بسلاحنا سيظل نشوانا شغوفا.

بين مواضيعكم نجد
المتعة دائماً
وفقكم الله لقادم اجمل

عاشت الايادي