مثّلت البيئة التونسية المتنوعة والمختلفة فكريّا وايديولوجيا نقطة قوة واجه بها المجتمع التّونسي المستعمر الفرنسي، وكافح من أجل نيل الاستقلال والحرية. وكان هذا التّنوع والاختلاف نقطة التقاء في فكرة التحرير ونقطة اختلاف في الرؤى والتّوجهات، وبين هذا وذاك سطع في تونس نجم المناضلين الوطنيين والنقابيين الأحرار. ويعتبر أحمد بن صالح أحد هؤلاء الرموز البارزين، إذ جمع بين العمل الوطني والنقابي. فمن هو أحمد بن صالح؟ وفيم تتمثل سيرته ومسيرته؟ وكيف كانت علاقته بالرئيس الحبيب بورقيبة؟
نشأة أحمد بن صالح:
ولد أحمد بن صالح يوم 13جانفي بمدينة المكنين بالسّاحل التونسي، توفيت أمّه وهو لم يبلغ السنتين من عمره، وتولت زوجة أبيه تربيته هو وإخوته. وتعود أصول أحمد بن صالح وموطن أسلافه الأصلي إلى منطقة ماسة بالمغرب الأقصى. رحلت العائلة من المغرب واستقرّ بها المقام بجبال وسلات بالقيروان، لكن لم تدم الإقامة هناك إذ كانت المعارك بين الباي حسين بن علي وابن أخيه علي باشا في أوجها[1] سببا مباشرًا في خروج العائلة من القيروان والانتقال إلى مدينة المكنين لتستقرّ هناك، ولتكون موطن أحمد بن صالح ومسقط رأسه[2]. هكذا كانت نشأة أحمد بن صالح ترحال من مكان إلى آخر ويُتم منذ الصغر، فهل سيكون لهذه الظروف تأثير في المسيرة؟
التكوين:
زاول أحمد بن صالح تعليمه الابتدائي بالمدرسة الابتدائية بالمكنين، ثمّ انتقل إلى تونس العاصمة ليلتحق بالمدرسة الصادقية سنة 1938م. وفي هذه المدرسة تعرّف على الزملاء والمناضلين الذين سيقودون النضال النقابي والسياسي من أجل الاستقلال والحرية. ومثّلت المدرسة الصادقية محراب العلم ومنطلق العمل الوطني لأحمد بن صالح وجلّ المناضلين تقريبا، وساهمت مساهمة كبرى في تكوينه وتأطيره لينخرط مبكرًا في العمل السياسي والنقابي. ويعتبر حدث نفي المنصف باي أهمّ حدث عاشه أحمد بن صالح، فتأثرّ به وأثّر فيه، كما كان لمشاركته في أنشطة الشّبيبة المدرسية دور هامّ في تكوينة والتعرّف إلى القضايا الوطنية وأطراف الصراع المتناحرة أثناء الحرب العالمية الثانية، “ونذكر من جملة هذه الأنشطة انخراط أحمد بن صالح في الشبيبة المدرسية، وتكليفه من طرف الحبيب ثامر ضمن مجموعة من الشبّان من الانخراط في منظمة شباب محمد[3] والعمل على نسفها من الداخل”[4].
غادر أحمد بن صالح المدرسة الصادقية بعد التشبع بالثقافة الغربية لمواصلة تعليمه العالي بباريس مثل غيره من المناضلين، وكان ذلك سنة 1945م فنهل من الثقافة الغربية، وتعرّف على حضاراتها العريقة، وكان ذلك بارزًا في تكوينه وتكوين النخبة التي ستقود حرب التحرير الوطني “فاندمج الجميع بشغف في الأجواء الفكرية والأنشطة الثّقافية إلى جانب الحياة الجامعية، ممّا ساهم في تكوينهم وأكسبهم تجارب مختلفة تؤهلهم لما ينتظرهم في مواعيد لاحقة من كدّ وجهد في سبيل مستقبل تونس”[5].
نتبيّن ممّا تقدّم ذكره أن سفر ابن صالح إلى فرنسا لم يكن الهدف الوحيد منه نيل الشهادة الجامعية، وإنّما كان لغايات أخرى منها التعريف بالقضية الوطنية في أوروبا، واكتشاف نقاط قوة المستعمر في موطنه لتعزيز روح الانتماء إلى تونس، وتنمية الشعور الوطني لاسترجاع الأرض المغتصبة والحرية المسلوبة، و كذلك لبناء الدولة الحديثة على أسس متينة. كما مثّلت زيارة أحمد بن صالح إلى منصف باي في منفاه نقطة إيجابية هامة نظرا لمساندة هذا الباي للقضية التونسية ودعمه لنضالات الحركة الوطنية. وقد مثّلت وفاة المنصف باي منعرجًا في حياة أحمد بن صالح الذي قرر الاستقرار بمدينة المكنين وعدم إتمام دراسته بالسربون، فامتهن التدريس انطلاقا من سنة 1948، وهناك انخرط في العمل الثقافي والفكري وكوّن “جمعية قدماء التّعليم الثانوي”. وبذلك بدأ أحمد بن صالح يشق طريق الكفاح، وسانده في ذلك الزعيم النقابي فرحات حشاد، فقد آمن بقدراته ومؤهلاته واختاره أن يكون ممثلا للاتحاد العام التونسي للشغل بالسيزل، فمن المؤكد أن فرحات حشاد سجل ما عاينه أثناء المجلس الوطني للاتحاد في جويلية 1950، والمؤتمر الرابع في مارس 1951 من مؤشرات خاصة بمؤهلات أحمد بن صالح الذاتية، ومن البديهي أن يكون أجرى بحثا خفيا لدى قدامى النقابيين المطلعين على مسيرته ليستقرّ رأيه على جدوى ايفاده للسيزل ممثلا عن الاتحاد العام التونسي للشغل”[6].
هكذا تمكّن أحمد من صالح من نيل ثقة فرحات حشاد الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل آنذاك، واستطاع أيضا الإلمام بمشاغل العمال واهتماماتهم، فهو عاش وعاين عن قرب أحداث النفيضة التي وقعت في 12نوفمبر 1950، وتتمثّل هذه الأحداث في مطالبة عملة الضيعة الفلاحية الفرنسية بالنفيضة بالترفيع في الأجور وتخفيض ساعات العمل، فجاء رد القوات الاستعمارية على مطالب العمال ردّا عنيفا، فقُتل عدد منهم وطالت الإيقافات أعدادًا أخرى.
يمكن القول إذن إن تكوين أحمد بن صالح كان له مؤثرات كثيرة أولها نفي المنصف باي واتصاله بفرحات حشاد، وكذلك الاحتجاجات العمالية على عنف الاستعمار واستغلاله للطاقات البشريّة.
العمل النقابي والسّياسي:
انعقد المؤتمر الخامس للاتّحاد العام التونسي للشغل في شهر جويلية 1954، وبانعقاده أصبح أحمد بن صالح على رأس الاتّحاد خلفًا لفرحات حشاد، وهو لم يبلغ الثلاثين من عمره. وكانت مخرجات المؤتمر ولوائحه التي تضمنت ثلاثين توصية بمثابة الثورة على نظام الاستعمار وخارطة طريق لتونس بعد الاستقلال، خاصة في المجالين الاقتصادي والاجتماعي، وبذلك يدخل أحمد بن صالح في صراع مع بورقيبة نظرا لأنّه سيكون منافسا قويا وشرسا نظرا لإلمامه بمشاغل التونسيين والتحامه بهم. وزاد صيت هذا النقابي بعد تجديد الثقة في شخصه في المؤتمر السادس للاتحاد المنعقد سنة 1956. فزاد هذا الانتخاب لأحمد بن صالح مخاوف بورقيبة من مكانة هذا الشاب لدى الفئات الشعبية المتعطشة لوضع اجتماعي يقطع مع سياسة الاستعمار. وأمام تزايد التفاف الفئات الشعبية حول شخصية أحمد بن صالح استغلّ الحبيب بورقيبة الخلاف بين الأمين العام للاتحاد والحبيب عاشور للإطاحة به، وذلك عندما كان ابن صالح في مهمة خارج حدود الوطن، فانعقدت الهيئة الإدارية للاتحاد العام التونسي للشغل يوم 19ديسمبر 1956 وتمّ إثرها تكليف أحمد التليلي بوظيفة كاتب عام للمنظمة الشغيلة “وأصدرت هيئة الاتّحاد بلاغا بإمضاء أحمد التليلي جاء فيه: واجتمعت الهيئة الإدارية للاتحاد العام التونسي للشغل يوم 19ديسمبر على الساعة السادسة بالنادي المركزي، وبعد الاستماع إلى بيان الكاتب العام بالنيابة أحمد التليلي قررت أن يضطلع الأخ أحمد التليلي بوظيفة كاتب عام للمنظمة.”[7]
نعتقد أن هنالك عدّة أسباب تقف وراء إزاحة أحمد بن صالح، ولعلّ أهم هذه الأسباب مرافقته لصالح بن يوسف خصم بورقيبة في مؤتمر الاشتراكية الدولية سنة 1953 وإشادته بخصال جمال عبد الناصر. ونعتقد أيضا أنّ بورقيبة رأى في ابن صالح امتداد لابن يوسف، ولكن الأهم من ذلك كلّه يتجلى في جمع أحمد بن صالح بين النقابي والعمل السياسي، ثم إنّه يحمل مشروعا اقتصاديّا متكاملاً.
المناصب السّياسية:
انحصر نشاط أحمد بن صالح بعد تنحيته من الاتحاد العام التونسي للشغل في المجال السياسي، فشغل منصب وكيل رئيس المجلس القومي التأسيسىي ورئيس لجنة السلطة التشريعية ورئيس لجنة التوطئة والتّنسيق (لجنة صياغة الدستور). ونظرًا للوضع الدقيق الذي تمرّ به دولة الاستقلال وما تواجهه من تحدّيات لكسب رهان التنمية قام بورقيبة بمنح ابن صالح حقيبة كتابة الدولة للصحة للاستفادة من خبراته وكفاءته والنهوض بالصحة، باعتبارها من أوليات الإصلاح بعد الاستقلال. ثمّ تدرّج أحمد بن صالح في سلم المسؤوليات صلب الحكومة، فتمّ تكليفه بكتابة الدولة للتخطيط في جانفي1961 بعد فشل اللجان التي أرسلها بورقيبة إلى الخارج لإعداد مخطط تنموي[8]، ولم تقتصر مهام ابن صالح عند هذا الحدّ فما لبث أن عيّنه الرئيس في عدّة مناصب أخرى مثل المالية والتجارة في جانفي 1961، والصناعة سنة 1962والفلاحة أواخر 1968، وبذلك اجتمعت لدى ابن صالح سلطات واسعة وصلاحيات لا محدودة. فهل سيمكنه ذلك من تطبيق المشروع الاقتصادي المتمثل في الاشتراكية الدستورية؟ وهل سينحج في النهوض بالاقتصاد التونسي؟
أحمد بن صالح والمخطط التنموي:
واصلت تونس بعد الاستقلال اتّباع النظام الرأسمالي في الاقتصاد، لكن الرأسمالية فشلت في وضع الأسس والبرامج الكفيلة لتحقيق نهضة شاملة تنهض بالوطن اقتصاديا واجتماعيا رغم التسهيلات والتشجيع الذي قدّمته الدولة لرؤوس الأموال فإنّها لم تبلغ المنشود، وخيّبت الآمال، “فمقابل هذا المجهود لم يسع أصحاب النظرية الليبرالية الاقتصادية ورؤوس الأموال للاستجابة للنّداء الملحّ للرئيس بورقيبة، ولم يتقدّموا بمشروع للتنمية يمكن تطبيقه والاطمئنان إلى مضامينه”[9] . أمام هذا الفشل للرأسمالية استنجد بورقيبة بأحمد بن صالح لتطبيق المشروع الاقتصادي الذي تمّت صياغته في المؤتمر السّادس الاتحاد العام التونسي للشغل. مع أحمد بن صالح بدأ التخطيط لعشرية الستينات الحافلة بالمشاريع الاقتصادية، ووجد بورقيبة مخرجا للأزمة الاقتصادية باتباع خيار الاشتراكية الدستورية، ولتحقيق ذلك تمّ التوسيع في صلاحيات ابن صالح، وتم أيضا تغيير اسم “الحزب الحر الدستوري” بـ”الحزب الاشتراكي الدستوري” في مؤتمر بنزرت المنعقد في أكتوبر 1964.
هكذا انطلق أحمد بن صالح والمسؤولون في الدولة لتنفيذ برنامج الحزب والدولة، فتمّ تركيز التعاضديات في مختلف مناطق البلاد، وبدأ أحمد بن صالح يجوب كامل تراب الجمهورية للتعريف بالبرنامج الاقتصادي وتشجيع الفلاحين خاصة على الانخراط في التعاضديات للنهوض بمستواهم الاجتماعي والاقتصادي. ولم يكن مشروع الاشتراكية الدستورية مشروعا اقتصاديا فحسب بل كان مشروعا متكاملا للنهوض بالمواطن التونسي فكريّا واجتماعيا واقتصاديا، لذلك تمّ تشييد المدارس في كامل تراب الجمهورية وحتى المناطق الوعرة منها، وتركيز دور الشباب والمكتبات العمومية للنهوض بالمستوى الفكري للفرد، وكذلك الاهتمام بالجانب الثقافي لتكوين ناشئة منفتحة على الآخر مثقفة ممّا يمكنها من النهوض بالوطن[10]. تسارعت عملية الإصلاح وتعالت الأصوات الداعمة لتجربة التعاضد في كامل أنحاء الجمهورية، وتحمّس بورقيبة للمشروع الاشتراكي، ودفع كل القطاعات في هذا الخيار الاقتصادي، وتمّ تعميم التعاضد[11] الذي اقتصر في البداية على قطاعات بعينها، وتمّ تجاوز مقررات مؤتمر المصير[12] رغم نصح بعض الوطنيين. وصرّح بورقيبة أنّ”التعاضد في كلّ شيء إلا في النّساء”12.
وأخذ أحمد بن صالح يجوب البلاد متناسيا طبيعة المجتمع التونسي الذي لايزال يعاني الجهل والتخلف، وكذلك وضعية الاقتصاد الهشّة، وبدأ التّخوف يدب في نفوس الحاشية والطبقة البورجوازية التي تخشى على مكانتها فتقرّبوا من بورقيبة لإفشال المخطط التنموي لعشرية الستينات، وساعدهم في ذلك الأزمة القلبية التي تعرّض لها بورقيبة سنة1967 [13] فسعوا إلى الإطاحة بأحمد بن صالح الذي أصبح يمثّل خطرًا على مكانتهم السياسية في البلاد. وبذلك تمّ التخلص من أحمد بن صالح وإجهاض التجربة الاشتراكية التي كان بالإمكان أن تنجح وتحقق لتونس نهضة شاملة لو لم يقع تجاوز مقررات مؤتمر المصير[14].
ولم يكتف أعداء أحمد بن صالح بإزاحته بل دفعوا بورقيبة إلى اتّهامه بالخيانة العظمى ومحاكمته. قضّى أحمد بن صالح ثلاث سنوات في السجن، ثمّ تمكّن من الفرار إلى الجزائر ومن هناك إلى أوروبا إذ واصل مشواره النقابي على المستوى العالمي في تلك البقاع. ورغم فراره من تونس إلا أنه بقي ملاحقا وتعرّض لمحاولة اغتيال[15]. ورغم عودته إلى تونس سنة 1983إلاّ أنّه ظلّ تحت رقابة السلطة فقرر مغادرة البلاد مرة أخرى وبقيَ مغمورا بين المناضلين والنقابيين إلى أن وافته المنية في سبتمبر 2020، وتمّ إلحاق صورة له بقائمة النقابيين فوق مبنى مقرّ الاتحاد العام التونسي للشغل.
المراجع والهوامش:
[1] المنصوري، سالم أحمد بن صالح وزمانه: مؤسسة بوجميل للطباعة والنشر2018، صص90-91.
[2] مدينة المكنين: تقع في الساحل التونسي، وبالتحديد في ولاية المنستير وقد انحدر منها العديد من المناضلين، تبعد عن العاصمة تونس123كلم.
[3] منظمة شباب محمد: شجعت على تكوينها القوات الألمانية لمّا قدمت إلى تونس وعملت على انتداب شبان وتدريبهم وتوجيه بعضهم إلى العراق للالتحاق بجيش رشيد الكيلاني الموالي لقوات المحور.
[4] المنصوري، سالم، أحمد بن صالح وزمانه .ص92.
[5] المصدر نفسه، الصفحة نفسها.
[6] م.ن. صص116-117.
[7] المنصوري، سالم.أحمد بن صالح وزمانه. ص337
[8] المنصوري، سالم، أحمد بن صالح وزمانه. ص386
[9] القلال، عبد السلام، الحلم والمنعرج الخطأ. تونس دار الجنوب للنشر.2018ص285.
[10] لمزيد التوسع انظر عبد السلام القلال، الحلم والمنعرج الخطأ ص217.
[11] مؤتمر المصير: هو المؤتمر الذي انعقد ببنزرت في شهر اكتوبر سنة 1964 وتمّ خلاله تغيير اسم الحزب من الحزب الحر الدستوري إلى الحزب الاشتراكي الدستوري، وبذلك اتّبعت تونس الخيار الاشتراكي أو ما يسمى الاشتراكية الدستورية. (لمزيد التوسع انظر الحلم والمنعرج الخطأ لعبد السلام القلاّل).
[12] خطاب بورقيبة في المؤتمر القومي لاتحاد التعاضد في 24جانفي1969.
[13] الحباشي، محمد علي. تونس المستقبل. تونس: أوربيس للطباعة قصر السعيد نوفمبر1999ص125.
[14] القلال، عبد السلام، الحلم والمنعرج الخطأ، ص358.
[15] المنصوري، سالم، أحمد بن صالح وزمانه. ص495.
بقلم: الأستاذة ليلى ذياب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ