سورة الفلق والناس :قال: أقول: هاتان السورتان نزلتا معا -كما في الدلائل للبيهقي- فلذلك قرنتا، مع ما اشتركتا فيه من التسمية بالمعوذتين، ومن الافتتاح بـ " قل أعوذ " ، وعقب بهما سورة الإخلاص; لأن الثلاثة سميت في الحديث بالمعوذات وبالقواقل.
وقدمت الفلق على الناس -وإن كانت أقصر منها- لمناسبة مقطعها [ ص: 162 ] في الوزان لفواصل الإخلاص مع مقطع تبت.
وهذا آخر ما من الله به علي من استخراج مناسبات ترتيب السور، وكله من مستنبطاتي، ولم أعثر فيه على شيء لغيري إلا النزر اليسير الذي صرحت بعزوي له، فلله الحمد على ما ألهم، والشكر على ما من به وأنعم، سبحانك لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك.
ثم رأيت الإمام فخر الدين ذكر في تفسيره كلاما لطيفا في مناسبات هذه السور، فقال في سورة الكوثر: اعلم أن هذه السورة كالمتممة لما قبلها من السور، وكالأصل لما بعدها.
أما الأول فلأنه تعالى جعل سورة "الضحى" في مدح النبي -صلى الله عليه وسلم- وتفصيل أحواله، فذكر في أولها ثلاثة أشياء تتعلق بنبوته: ما ودعك ربك وما قلى وللآخرة خير لك من الأولى ولسوف يعطيك ربك فترضى "الضحى: 3-5"، ثم ختمها بثلاثة أحوال من أحواله فيما يتعلق بالدنيا: ألم يجدك يتيما فآوى ووجدك ضالا فهدى ووجدك عائلا فأغنى "الضحى: 6-8".
ثم ذكر في سورة "ألم نشرح" أنه شرفه بثلاثة أشياء: شرح الصدر، ووضع الوزر، ورفع الذكر.
ثم شرفه في سورة "التين" بثلاثة أنواع [من التشريف] 2: أقسم ببلده، وأخبر بخلاص أمته من الناس بقوله: إلا الذين آمنوا ووصولهم إلي الثواب بقوله: فلهم أجر غير ممنون "التين: 6".
وشرفه في سورة اقرأ بثلاثة أنواع: اقرأ باسم ربك "العلق"، وقهر خصمه [ ص: 163 ] بقوله: فليدع ناديه سندع الزبانية "العلق: 17، 18"، وتخصيصه بالقرب في قوله: واسجد واقترب "العلق: 19".
وشرفه في سورة "القدر" بليلة القدر، وفيها ثلاثة أنواع من الفضيلة: كونها خيرا من ألف شهر، وتنزل الملائكة والروح فيها، وكونها سلاما حتى مطلع الفجر. وشرفه في "لم يكن" بثلاثة أشياء: أنهم خير البرية، وجزاؤهم جنات، ورضي عنهم.
وشرفه في "الزلزلة" بثلاثة أنواع: إخبار الأرض بطاعة أمته، ورؤيتهم أعمالهم، ووصولهم إلى ثوابها حتى وزن الذرة.
وشرفه في "العاديات" بإقسامه بخيل الغزاة من أمته، ووصفها بثلاث صفات.
وشرفه في "القارعة" بثقل موازين أمته، وكونهم في عيشة راضية، ورؤيتهم أعداءهم في نار حامية.
وفي "ألهاكم التكاثر" هدد المعرضين عن دينه بثلاثة: يرون الجحيم، ثم يرونها عين اليقين، ويسألون عن النعيم.
وشرفه في "العصر" بمدح أمته بثلاثة: الإيمان، والعمل الصالح، وإرشاد الخلق إليه; وهو: التواصي بالحق والصبر.
وشرفه في سورة "الهمزة" بوعيد عدوه بثلاثة أنواع من العذاب: ألا ينتفع بدنياه، وينبذ في الحطمة، ويغلق عليه.
وشرفه في سورة "الفيل" أن رد كيد عدوه بثلاث: بأن جعله في تضليل، وأرسل عليهم طيرا أبابيل، وجعلهم كعصف مأكول.
وشرفه في سورة "قريش" [بأن راعى مصلحة أسلافه من ثلاثة أوجه] 3: تآلف قومه، وإطعامهم، وأمنهم.
[ ص: 164 ] وشرفه في "الماعون" بذم عدوه بثلاث: الدناءة، واللؤم في قوله: فذلك الذي يدع اليتيم ولا يحض على طعام المسكين "الماعون: 2، 3"، وترك تعظيم الخالق في قوله: فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يراءون "الماعون: 4-6"، وترك انتفاع الخلق في قوله: ويمنعون الماعون "الماعون: 7".
فلما شرفه في هذه السور بهذه الوجوه العظيمة قال: إنا أعطيناك الكوثر أي: هذه الفضائل المتكاثرة المذكورة في هذه السور، التي كل واحدة منها أعظم من ملك الدنيا بحذافيرها، فاشتغل أنت بعبادة ربك، إما بالنفس، وهو قوله: فصل لربك "الكوثر: 2"، وإما بالمال وهو قوله: وانحر وإما بإرشاد العباد إلى الأصلح، وهو قوله: قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون "الكافرون:1، 2" الآيات، فثبت أن هذه السورة كالتتمة لما قبلها.
وأما كونها كالأصل لما بعدها فهو: أنه تعالى يأمره بعد هذه أن يكف عن أهل الدنيا جميعا بقوله: قل يا أيها الكافرون إلى آخر السورة، ويبطل أديانهم، وذلك يقتضي نصرهم على أعدائهم; لأن الطعن على الإنسان في دينه أشد عليه من الطعن في نفسه وزوجه، وذلك مما يجبن عنه كل أحد من الخلق; فإن موسى وهارون أرسلا إلى فرعون واحد فقالا: إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى "طه: 45" ومحمد -صلى الله عليه وسلم- مرسل إلى الخلق جميعا، فكأن كل واحد من الخلق كفرعون بالنسبة إليه، فدبر الله في إزالة الخوف الشديد تدبيرا لطيفا بأن قدم هذه السورة، وأخبر فيها بإعطائه الخير الكثير، ومن جملته أيضا: الرئاسة، ومفاتيح الدنيا، فلا يلتفت إلى ما بأيديهم من زهرة الدنيا، وذلك أدعى إلى مجاهرتهم بالعداوة، والصدع بالحق; لعدم تطلعه إلى ما بأيديهم.
ثم ذكر بعد سورة "الكافرين" سورة "النصر"; فكأنه تعالى يقول: وعدتك [ ص: 165 ] بالخير الكثير، وإتمام أمرك، وأمرتك بإبطال أديانهم، والبراءة من معبوداتهم، فلما امتثلت أمري أنجزت لك الوعد بالفتح والنصر، وكثرة الأتباع، بدخول الناس في دين الله أفواجا.
ولما تم أمر الدعوة والشريعة، شرع في بيان ما يتعلق بأحوال القلب والباطن; وذلك أن الطالب إما أن يكون طلبه مقصورا على الدنيا، فليس له إلا الذل والخسارة والهوان، والمصير إلى النار، وهو المراد من سورة "تبت"، وإما أن يكون طالبا للآخرة، فأعظم أحواله أن تصير نفسه كالمرآة التي تنتقش فيها صور الموجودات.
وقد ثبت أن طريق الخلق في معرفة الصانع على وجهين: منهم من قال: أعرف الصانع، ثم أتوسل بمعرفته إلى معرفة مخلوقاته، وهذا هو الطريق الأشرف، ومنهم من عكس، وهو طريق الجمهور.
ثم إنه سبحانه ختم كتابه المكرم بتلك الطريقة التي هي أشرف، فبدأ بذكر صفات الله، وشرح جلاله في سورة "الإخلاص"، ثم أتبعه بذكر مراتب مخلوقاته في "الفلق"، ثم ختم بذكر مراتب النفس الإنسانية في "الناس"، وعند ذلك ختم الكتاب. فسبحان من أرشد العقول إلى معرفة هذه الأسرار الشريفة [المودعة] 1 في كتابه المكرم! هذا كلام الإمام.
ثم قال في "الفلق": سمعت بعض العارفين يقول: لما شرح الله سبحانه [ ص: 166 ] أمر الإلهية في سورة "الإخلاص"، ذكر هاتين السورتين عقبها في شرح مراتب الخلق على ما قال: ألا له الخلق والأمر 3.
فعالم الأمر كله خيرات محضة، بريئة عن الشرور والآفات، [و] 4 أما عالم الخلق فهو الأجسام الكثيفة، والجثمانيات، فلا جرم قال في المطلع: قل أعوذ برب الفلق من شر ما خلق "الفلق: 1، 2".
ثم [من الظاهر أن] 7 الأجسام إما أثيرية أو عنصرية، والأجسام كلها خيرات محضة; لأنها بريئة عن الاختلال والفطور، على ما قال: ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور "تبارك: 3". وإما عنصرية، فهي إما جمادات، فهي خالية عن جميع القوى النفسانية، فالظلمات فيها خالصة، والأنوار عنها زائلة، وهو المراد من قوله: ومن شر غاسق إذا وقب "الفلق: 3".
وإما نبات، والقوة العادلة هي التي تزيد في الطول والعمق معا، فهذه القوة النباتية كأنها تنفث في العقد.
وإما حيوان، وهو محل القوى التي تمنع الروح الإنسانية عن الانصباب إلى عالم الغيب، والاشتغال بقدس جلال الله، وهو المراد بقوله: ومن شر حاسد إذا حسد "الفلق: 5".
ثم إنه لم يبق من السفليات بعد هذه المرتبة سوى النفس الإنسانية، وهى المستعيذة، فلا يكون مستعاذا منها فلا جرم قطع هذه السورة، وذكر بعدها في سورة "الناس" مراتب ودرجات النفس الإنسانية. انتهى.
ولم يبين المراتب المشار إليها، وقد بينها ابن الزملكاني في أسراره فقال: إضافة "رب" إلى "الناس" تؤذن بأن المراد بالناس: الأطفال; لأن الرب من ربه يربه، وهم إلى التربية أحوج، وإضافة "ملك" إلى "الناس" [ ص: 167 ] تؤذن بإرادة الشباب به; إذ لفظ "ملك" يؤذن بالسياسة والعزة [والقوة] 7، والشبان إليها أحوج، وإضافة "إله" إلى "الناس" تؤذن بأن المراد به الشيوخ; لأن ذاته مستحقة للطاعة والعبادة، وهم أقرب، وقوله: يوسوس في صدور الناس "الناس: 5" يؤذن بأن المراد بالناس العلماء والعباد; لأن الوسوسة غالبا عن الشبه، وقوله: من الجنة والناس "الناس: 6" يؤذن بأن المراد بالناس الأشرار، وهم شياطين الإنس الذين يوسوسون لهم، والله تعالى أعلم.
تم بحمد الله تعالى وتوفيقه
قال مؤلفه -نفعنا الله ببركاته، وأمدنا من نفحاته: فرغت من تأليفه يوم الأحد، الثالث عشر من شعبان سنة ثلاث وثمانين وثمانمائة، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وحسبنا الله ونعم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ