في ذكرى عين جالوت.. كيف أنقذت مصر العالم الإسلامي من الغزو المغولي
الملك المظفر سيف الدين قطز.. الذي استطاع أن يوحد الفرقاء ويصد أخيرًا السيل المغولي الذي اجتاح بلاد المسلمين، نظم جيوشه، واستعد تمامًا لمعركة عين جالوت التاريخية، انتصر، ثم مات غدرًا على يد "بيبرس"، لماذا معركة عين جالوت بتلك الأهمية، والتي وقعت أحداثها في مثل هذا اليوم 3 سبتمبر 1260م؟ وكيف استطاع قطز وقف المغول الذين اسقطوا بالفعل الخلافة العباسية؟ وما الدافع الحقيقي الذي جعل "بيبرس" أحد رجاله، بشكل أو آخر، يقتله؟
ترجع أهمية معركة عين جالوت لما لاقاه العالم الإسلامي قبلها من سقوط أمام الغزو المغولي، فبعدما انتصر المغول على الدولة الخوارزمية وارتكبوا في مدنها المذابح واحرقوا منها كثير، استطاعوا دخول بغداد وسقطت مع دخولهم بغداد الخلافة العباسية بعدما استطاعوا قتل الخليفة المعتصم في 1258م على يد هولاكو حيث استطاع اقتحام بغداد بعد حصارها الذي دام 12 يومًا، وكان المغول عندما يدخلون البلاد يستبيحوها ويستبيحوا نساءها ويحرقوا وينهبوا كل ما يصادفهم في طريقهم. وبعد سقوط الخلافة في بغداد بدا الطريق مفتوحًا أمام المغول فسقطت جميع مدن الشام وفلسطين في يد هولاكو، وأصبحت مصر هي محط أنظار المغول.
سيف الدين قطز وجهوده في توحيد الفرقاء لمواجهة المغول
تولى عرش مصر بعدما قرر عزل نور الدين علي بن أيبك الذي كان يبلغ من العمر حينها 15 عامًا وكان سيف الدين قطز واصيًا عليه، وذلك ليستطيع السيطرة على الفتن والقلاقل في مصر ويستعد لمواجهة الخطر المغولي، حينها كان المغول على اعتاب مصر بعدما استطاعوا اجتياح الشام وفلسطين.
خطا قطز عدة خطوات لتوحيد القوى المتنازعة في مصر، فقام قطز بالقبض على من يتسببون في شيوع الاضرابات ومن هؤلاء سنجر الحلبي زعيم المماليك البحرية، وجمع الأمراء وكبار القادة والعلماء وأصحاب الرأي أن المللك المنصور علي بن المعز أيبك كان صغير السن ضعيف الشخصية ولن يستطيع مواجهة الأخطار المحيطة بالدولة، فاتفقوا على عزله، وقال قطز لهم: إني ما قصدت (أي ما قصدت من السيطرة على الحُكْم) إلَّا أنْ نجتمع على قتال التتر، ولا يتأتى ذلك بغير مَلِكٍ، فإذا خرجنا وكسرنا هذا العدوَّ، فالأمرُ لكم، أقيموا في السلطة مَنْ شئتم"، وبهذا استطاع قطز أن يجمع الفرقاء على قتال المغول، وتعلق على ذلك إيناس البهيجي في كتابها "تاريخ المغول وغزو الدولة الإسلامية" قائلة: "سيرة الرجل تدل على أنه صادق فيما قال وأن الانتصار لهذا الدين ورغبته في قتال التتار أعلى بكثير من رغبته في الملك..فقد استخدم الأخلاق الرفيعة والأهداف النبيلة في تجميع القادة والعلماء حوله".
نظم قطز قواته بحيث تضمن له الانتصار على المغول، فعزل الوزير "ابن بنت عز" المعروف بولاءه لشجرة الدر، وولى بدلًا منه آخر يثق في ولاءه وقدراته وهو زين الدين يعقوب بن عبد الرفيع، وأقر قائد الجيش في مكانه، وهو فارس الدين أقطاي الصغير الصالح، مع أنه من المماليك البحرية الصالحية. وراسل قطز أمراء الشام ليعاونوه في حربه ضد المغول، فاستجاب له بعضهم وخانه البعض الآخر، فالأمير المنصور حاكم حماة، جاءه ومعه بعض من جيشه لينضم لجيش قطز، أما المغيث عمر أمير الكرك وبدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل، والملك السعيد حسن بن عبد العزيز حاكم بانياس، تحالفوا مع المغول ليساندوهم ضد المسلمين، وفقًا لكتاب "أطلس تاريخ العصر المملوكي" لـ سامي بن عبد الله المغلوث.
وأرد قطز أن يجبي ضرائب من عموم الناس ليدعم بها الجيش، واستعان في ذلك بفتوى من الشيخ العز بن عبد السلام، الذي أفتى بجواز ذلك بشروط، وقد وردت تلك الفتوى في كتاب السيوطي "تاريخ الخلفاء" حيث قال العز بن عبد السلام: "إذا طرق العدوُّ البلاد وجب على العالم كلهم قتالهم، وجاز أن يُؤخذ من الرعية ما يُستعان به على جهازهم؛ بشرط أن لا يبقى في بيت المال شيء، وأن تبيعوا ما لكم من الممتلكات والآلات، ويقتصر كلٌّ منكم على فرسه وسلاحه، وتتساووا في ذلك أنتم والعامَّة، وأمَّا أخذ أموال العامة مع بقاء ما في أيدي قادة الجند من الأموال والآلات الفاخرة فلا".
وفي عين جالوت بفلسطين، في 25 رمضان 658 هـ، 3 سبتمبر 1260م، ألتقى الطرفان، وكانت الحرب الضارية. حيث كان التتار متفوقين بشكل كبير على المسلمين، فنزل قطز ساحة المعركة بنفسه ليحمس جنوده قائلًا عبارته الشهيرة: "وا إسلاماه" وقاتل الجيش قتالًا شديدًا، حتى كتب لهم الانتصار، ويصف السيوطي المعركة قائلًا: "قتل من التتار مقتلة عظيمة، وولوا الأدبار، وطمع الناس فيهم يتخطفونهم وينهبونهم، وجاء كتاب المظفر إلى دمشق بالنصر، فطار الناس فرحًا، ثم دخل المظفر دمشق مؤيدًا منصورًا..وساق بيبرس وراء التتار إلى بلاد حلب، وطردهم عن البلاد.." وطهر قطز بلاد الشام بأكملها من فلول المفول، وعادت إلى ملك الإسلام والمسلمين.
لكن كان مصير قطز من الأمور المؤسفة في التاريخ الإسلامي، حيث قتل على يد رفيقه "بيبرس" بعدما وعده بأن يوليه حلب ثم وعلى عليها غيره، فاتفق بيبرس مع المماليك البحرية الصالحية على قتل قطز ليتولى هو الحكم من بعده، فقتل في 24 أكتوبر عام 1260م أثناء عودة الجيش إلى مصر. لكن بعكس تلك الرواية التاريخية المشهورة، تشير الدكتورة إيناس البيهيجي، في كتابها السابق ذكره، إلى تحليل آخر لأسباب قتل بيبرس والمماليك لقطز، وهي ما رأته "أعمق بكثير من قصة رفضه نيابة حلب لبيبرس...، وأن الأسباب قديمة ترجع إلى أيام السلطان أيبك وتشريده معظم المماليك البحرية الصالحية"، حيث كان تحالفهم مع قطز، الذي كان ينتمي لمماليك أيبك، مؤقتًا أنتهى بالانتصار على المغول، وأنهم كانوا يضمرون في أنفسهم الرغبة للثأر لمقتل "فارس الدين أقطاي" وتشريد معظم المماليك البحرية، الذي تم على يد السلطان أيبك وقطز على حد سواء.