ما هي حادثة الافك
حادثة الإفك سمّى المختصّون في علم السيرة النبويّة حادثة اتّهام أمّ المؤمنين عائشة -رضيَ الله عنها- بحادثة الإفك، والإفك هو الكذب، وقد قال فيها الله -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ)،[١] حيث أراد مختلقها أن يجعل الباطل حقّاً، ويغير الحقيقة بحيث يجعلها كما يريد، ففي هذه الحادثة أراد عبد الله بن أبي سلول أن يغير حقيقة سيرة عائشة زوجة رسول الله الطاهرة المطهّرة المبرّأة، إلى الباطل المليء بالفواحش.[٢] خروج السيدة عائشة مع الجيش في غزوة بني المصطلق بلغ رسول الله في شهر شعبان من السنة السادسة من الهجرة أنّ الحارث بن أبي ضرار يجهّز جيشه من أجل غزو المدينة، فخرج رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- نحو بني المصطلق، وتواجه الجيشان مواجهة ليست بالكبيرة، انتهت بتراجع المشركين وانتصار المسلمين.[٣]
وقد كان رسول الله فيما ترويه عائشة -رضيَ الله عنها- يقرع بين زوجاته، وأيهنّ خرج اسمها أخرجها معه، وفي هذه المرة أقرع بينهنّ فخرج اسم عائشة، وكانت آيات الحجاب وفرضه قد أنزلت قبل هذه المرّة، فخرجت عائشة مع رسول الله في هودج.[٤] ضياع عقد السيدة عائشة وبحثها عنه انتهت الغزوة فأراد رسول الله العودة إلى المدينة، وفي العودة أثناء الاستراحة فقدت عائشة عقداً لها فلم تجده، فذهبت تبحث عنه وقد كانت خفيفة الوزن حينها، فلمّا أرادوا إكمال المسير حملوا الهودج وساروا دون أن يشعروا أنّ عائشة ليست فيه، ثمّ وجدت عائشة عقدها ولمّا عادت كان الجيش قد سار مسافةً طويلة، فاعتقدت أنّهم سيتنبّهون لعدم وجودها فيعودون لها.[٥] عودة السيدة عائشة مع الصحابي صفوان بن المعطل كان من ضمن الجيش مع رسول الله صاحبه صفوان بن المعطل، وكانت مهمّته أن يبقى في مكانه إذا حلّ اللّيل، ثمّ إذا أصبح الصّباح سار من خلف الجيش يتفقّد الطريق من بعدهم، إن كان قد وقع من أحدهم شيئاً يأخذه ويعود به إليهم، ثمّ يرجعه إلى صاحبه، ولمّا عادت عائشة ولم تجد الجيش حزنت فأخذت تمشي من خلفه تبكي. وحينها كان صفوان ماشياً خلف الجيش فلقيها، وكانت قد غطّت وجهها، فسألها عن نفسها، فأخبرته أنّها عائشة، فقال: إنّا لله وإنّا إليه راجعون، ونزل عن بعيره ثمّ سألها عن أمرها، فأخبرته بما حصل معها، فحملها على بعيره وسار بها، وتفقّد رسول الله عائشة فلم يجدها إلى أن جاء صفوان ومعه عائشة محمولةً على بعيره.[٦] اختلاق حادثة الإفك أراد المنافقون المساس برسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-، فتحدّثوا بعرضه، ولم يتوقّف الحديث عند المنافقون وحسب، بل امتدّ ليتحدّث به أُناس من مثل مسطح بن أثاثة ابن خالة أبي بكر الصّديق وغيره.[٧] وكان أبو بكر ينفق على مسطح بن أثاثة، فلمّا تكلّم بذلك امتنع عن النفقة عليه، فأنزل الله: (وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ)،[٨] لكنّ المنافق عبد الله بن أبي سلول كان على رأس من اختلق هذه الفتنة وأثارها، ولم يكن يريد أن يُظهر للنّاس أنّه مصدرها، فكان يذهب إلى النّاس ويقول لهم: أما سمعتم ما قيل في عائشة، قيل كذا وكذا.[٩] حال السيدة عائشة قبل نزول براءتها كانت السيّدة عائشة لا تعلم بما يتحدّث النّاس من خلفها حتى خرجت ذات يوم مع أمّ مسطح، فتعثّرت بالطريق فقالت: تعس مسطح، فوجّهت عائشة لها اللّوم كيف تقول هذا لمن شهد بدراً، فسألتها إن كانت عالمة بما يقول النّاس فيها، فأجابتها أنّها لا تعلم، فأخبرتها.[١٠] رجعت عائشة دون أن تقضي حاجتها، ولمّا تيقّنت من الخبر ذهبت إلى بيت أمّها، وجاءتها امرأة من الأنصار فحكت لها كل ما يجري، فلما لم يبقَ من الشك شيء سقطت مغشيّاً عليها، ثم دخلت البيت ومرضت مرضاً شديداً، وبكت بكاءً حتّى لم يبقَ من دمعها شيء، ولم يطرق النوم بابها.[١٠] موقف النبي صلى الله عليه وسلم من حادثة الإفك كان موقف رسول الله ممّا يحدث السكوت، حيث كان مقيّداً بالوحي، ولم يرضَ أن يحكم بالأمر حتى جاءه الوحي بالخبر اليقين،[١١] ولما رآه أبو بكر ساكتاً سكت مثله، ثمّ بدأ رسول الله يعرض أمره ويستشير الأقربين منه، فاستشار علي فأشار عليه ملمّحا أنّ النّساء غير عائشة كثر.[١٢] واستشار أسامة فأشار عليه أن يبقى على عهده، ثمّ أشارت عليه إحدى زوجاته فأثنت على عائشة ومدحتها ولم تأتِ بها بسوء، ثمّ ذهب إلى عائشة وسألها إن كانت فعلت شيئاً أن تقول له وتستغفر، فقالت له: لا أقول إلّا ما قاله أبو يوسف: (فَصَبرٌ جَميلٌ وَاللَّـهُ المُستَعانُ عَلى ما تَصِفونَ).[١٣][١٢] تبرئة السيدة عائشة نزلت الآيات في قول الله -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ)،[١] إلى قوله -تعالى-: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّـهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَـكِنَّ اللَّـهَ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَاللَّـهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).[١٤] أظهرت هذه الآيات براءة السيّدة عائشة في قرآن يُتلى إلى قيام السّاعة، ففرحت وقالت: "وأعلم أن الله مبرئي ببراءتي، ولكن والله ما كنت أظن أن الله منزل في شأني وحيًا يتلى"،[١٥] ولمّا نزلت هذه الآيات قالت أمّ عائشة لها: "قومي اشكري رسول الله"، فردّت عائشة أنّها ستشكر الله الذي برّأها من فوق سبع سماوات.[١٦] نزول آيات تبين حد القذف كانت حادثة الإفك سبباً لنزول الآيات المتضمّنة لحدّ القذف، فقال -تعالى-: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَـئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ).[١٧][١٨] عبر ودروس من حادثة الإفك يُستخلص من هذه الحادثة العديد من العبر والعظات والفوائد، منها:[١٩] مواساة النّساء المؤمنات العفيفات اللّواتي قد يتعرّضن لمثل ما تعرّضت له عائشة، فيُتّهمن زوراً وبهتاناً وكذباً، فها هي ابنة الصّديق قد تعرّضت لذلك من قبل المنافقين، ومِن قبلها تعرّضت لذلك مريم ابنة عمران. تعامل الصّحابة من النّساء وفق ما يُرضي الله، وبخاصة زوجات رسول الله، ومنه موقف صفوان حينما رأى عائشة؛ فبعدما سألها عن أمرها اكتفى بقوله: إنّا لله وإنا إليه راجعون، ثمّ جعلها تركب البعير، ولم يتحدّث معها بشيء. تعامل رسول الله مع زوجاته بلطف ولين، وضبط النّفس في المواقف التي تحتاج إلى ذلك، والتأني في إصدار الأحكام، فقد كان يسأل عنها لمّا مرضت رغم أنّها لم تجد منه اللّطف الذي اعتادته منه.