,,,,
كان لـحبشى جرجس السبق فى إنشاء أول إذاعة مصرية "إذاعة أهلية" عام 1927 عندما استعمل ما تبقى من محطة إذاعية من مخلفات الحرب العالمية الأولى وجدها فى وكالة البلح كادت أن تصهر ويتحول معدنها إلى أوانٍ منزلية، كان له السبق فى هذا المجال، ولكن لـ فريد قطرى السبق فى صناعة أول إذاعة مصرية "إذاعة أهلية" عام 1929 إذاعة تحمل شعار Made in Egypt.. صنع فى مصر.
كل ما كان يتمناه الصبى "فريد قطرى" أن يعمل ما يحب لا أن يعمل ما يحبه والده المستشار القانونى، أحب الكيمياء منذ صغره، ولم يجد فى نفسه هوا للقانون ونصوصه، فكان الصدام الطويل بينه وبين والده، وبين أمنياته ورغبات والده، دفع ثمن هذا الصدام إتلاف معمله الخاص عدة مرات، وتوبيخه عمال على بطال، إذا كان الثمن مدفوعا مقدمًا، فـ للأمنية الحق أن تتحول إلى إصرار، أصر الصبى على امنيته، ونبغ فيما يحب، ونال أول وسام فى حياته من مدرسته "سانت كاترين" بالإسكندرية، وذلك تقديرًا لنجاحه فى صناعة جهاز إرسال واستقبال، وكان هذا حافزا له أن يستمر فى الطريق الذى رسمه لنفسه، فأجرى الاختبارات والتجارب فى معمله الخاص، وواصل الليل بالنهار، واختلطت عليه الساعات.
فى إحدى هذه التجارب الكيميائية المرهقة وقع المحظور، وانفجر معمله، وأصيب إصابات بالغة فى وجه وذراعيه، وبعد إسعافه السريع نقله والده بين الحياة والموت إلى لندن لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، وكانت النتيجة أن كف بصره، وفقد سمعه، وبترت نصف ذراعيه، ولم يزل عمره ثمانية عشر عاما فى عام 1920.
ظل فى لندن يخضع للعمليات الجراحية حتى استرد بصره وجزء من سمعه، فعاد إلى مصر، وعاد إلى هوايته المفضلة، واستمر فى طريقه دون أن ينال منه الحزن أو اليأس على ما أصابه، فاستمر فى تجاربه حتى استطاع تقوية جهازه الإرسالي، وأجرى على الجهاز الاختبارات اللازمة بمساعدة عدد من أصدقائه، واستمعوا جميعًا إلى أول "بث" من إرسال صنعته يد مصرية.
تزوج فريد من صديقة يوغسلافية عام 1929، وفى نفس العام شاركته زوجته فى إنشاء أول محطة إذاعية "صناعة مصرية" بتكلفة لا تتجاوز ثلاثة جنيهات مصرية، وهى قيمة الخامات التى استخدمها فى إنشاء جهاز الإرسال، وأطلق على محطته الإذاعية "راديو دى فريد"، وإذا قارنا بين محتوى محطة حبشى جرجس ومحطة فريد قطري، نجد أن محطة حبشى بدأت منذ يومها الأول ناطقة باللهجة المصرية وموجهة كلية إلى أبناء الحارة المصرية، أما محطة فريد فى سنواتها الثلاث الأولى منذ عام 1929: 1931 كانت ناطقة باللغات الفرنسية والإيطالية والإنجليزية والتركية واليونانية، والسبب هو اختلاف البيئة المتواجدة فيها محطة كل منهما، فمحطة حبشى كانت كائنة فى شارع الجيش قرب كوبرى القبة فى قلب القاهرة حيث الأحياء الشعبية الخالصة، أما محطة فريد فكانت كائنة فى الإسكندرية حيث التنوع فى الأعراق، واختلاف الألسن، وتعدد الثقافات.
لم تستمر سياسة المحطة كثيرًا، فبفضل مكالمة هاتفية من مستمع لـ راديو دى فريد ناشد فيها المحطة أن تكون صوتًا للمصريين، ومتنفسًا لهم، استجاب فريد قطرى لطلب المستمع، وتحولت المحطة إلى محطة مصرية خالصة، يبدأ بثها من السابعة صباحًا ويمتد إلى الواحدة بعد منتصف الليل، وتذيع الأغانى المصرية، والمنولوجات، والموسيقى الشرقية، فسمع الجمهور صوت السيدة منيرة المهدية والسيدة سيدة حسنين والآنسة أم كلثوم وصالح عبد الحى وغيره، وهنا يكفى أن نقول أن الظهور الأول لصوت السيدة ليلى مراد كان فى هذه المحطة، ومما كانت تذيعه المحطة نشرة الأخبار التى تعطى ملخصًا لما تكتبه الصحافة، وبالإضافة إلى البرامج الأسرية والطبية، والبرامج الدينية، وكانت المحطة تلبى طلبات المستمعين.
من الطرائف التى واجهت محطة "راديو دى فريد" أن عددًا من رجال الدين كانوا معارضين لفكرة تلاوة القرآن الكريم عبر ميكروفونات الإذاعة، وكثيرًا ما كانوا يتظاهرون أمام مقر المحطة معربين عن غضبهم الشديد إذا قرأ أحد المشايخ آيات من القرآن فى بث إذاعي، وكان يتعرض هؤلاء المقرئون للضرب، ولم ينج من أيد الغاضبين سوى الشيخ حنفى محمود لأنه كان ضريرًا، هذا الموقف بتفاصيله تعرض له حبشى جرجس ومحطته الإذاعية فى القاهرة.
وفى مايو 1934 منحت الدولة شركة ماركونى امتياز إنشاء أول محطة إذاعية لاسلكية رسمية، وأنذرت الدولة أصحاب المحطات الأهلية، ومنحتهم عامًا واحدًا مهلة يليها إغلاق محطاتهم، فاضطر فريد قطرى إلى قبول عدد من الإعلانات التجارية، وعرضها فى محطته بطريقة مبتكرة وجذابة طوال عام لتعويض خسارته.