داود عليه السلام النبي القائد
جاء تكليف نبي الله داود عليه السلام بوظيفة الخِلافة في الأرض، وإمارة الناس وقيادتهم بأمر إلهي مباشر؛ قال تعالى: ﴿ يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ ﴾ [ص: 26]،
وفي الآية أوامر عدة جليَّة لداود عليه السلام عليه الالتزام بها، وهي:
1- أنَّ الأمر الإلهي يَقضي بأن يكون داود عليه السلام خليفة في الأرض.
2- عليه أن يَحكم بين الناس بالحق، والقائد يَجِدُ الحق حيث أمر ونهى الله جل جلاله.
3- عدم اتباع هوى النَّفس؛ لأن اتِّباع الهوى يضل القائد عن سبيل الله جل جلاله؛ بل من الممكن أن يتحول هوى النفس إلى إلهٍ يَعبده القائد من دون الله جل جلاله؛ قال تعالى: ﴿ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ﴾ [الجاثية: 23].
وهوى النفس يُعمي بصيرة القلب، ويُفقد القائد قابلية التمييز بين الأشياء، ويبدأ بمرتبة بسيطة لا تتعدى بعض الشهوات، ثم يَكبر إذا لم يعالج، وينمو هوى النفس عند القائد لمجموعة من الأسباب؛ فمنها:
• ضعف الجانب الإيماني، وقلَّة العِلم، والزُّهْد عن التعبُّد.
• مُخالَطة أهل المفاسد والفسوق، وأهل الأهواء من الناس.
• الإسراف في المُباحات؛ كالأكل والشُّرب واللبس والمسكن والمركب.
• عدم الانتباه إلى أمراض القلوب في بدايتها، كالكِبْر، والغرور.
وكان داود عليه السلام في بداية أمره رجلاً فقيرًا في بني إسرائيل؛ حيث كان راعيًا للأغنام قبل أن يلتحق بجيش الملك طالوت، وهو جيش جُمع من شباب بني إسرائيل لمُحاربة أعدائهم الذين اضطهدوهم وأذلوهم سنين طويلة، ثم إنَّ داود عليه السلام أظهر شجاعةً مُنقطعةَ النظير في القتال ضد أعداء بني إسرائيل، وهو مَن تطوع ليتصدَّى لقائد العدو (جالوت)، حين طلب الأخير المبارَزة، وقد وفَّقه الله - جل جلاله - لقتله، ثم إنَّ الملك طالوت أُعجب بشجاعة داود عليه السلام فقرَّبه منه، فصار داود عليه السلام هو الملك من بعد طالوت؛ قال تعالى: ﴿ فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾ [البقرة: 251].
فاتَّصف نبي الله داود عليه السلام وهو قائد ناجح وإيجابي، بمجموعة من الصفات القيادية، لعل أولها تلك الثلاث الرئيسية التي ذكرت في الآية آنفة الذكر؛ وهي: المُلْك، والحكمة، والعلم، فمن صفات النبي داود عليه السلام:
1- المُلك؛ ويتمثَّل في كافة الصلاحيات الإدارية، والتي تتضمَّن القدرة على إصدار الأوامر في العزْل والتعيين، وتقسيم المهام والأمور الأخرى، كما يتضمَّن الصلاحيات المالية، والتي فيها يُخصِّص القائد الأموال اللازمة للبناء والسلم والحرب والعطاءات وغيرها.
2- الحِكمة: والحكمة هي وضع الشيء في محلِّه؛ قال عبدالله الهروي: "الحِكْمَة اسم لإحكام وضع الشيء في موضعه، وهي على ثلاث درجات:
• الدرجة الأولى: أن تُعطي كل شيء حقه، ولا تعدِّيه حده، ولا تُعجله وقته.
• والدرجة الثانية: أن تشهد نظر الله - جلَّ جلاله - في وعيده، وتعرف عدله في حكمه، وتلحَظ برَّه في منعِه.
• الدرجة الثالثة: أن تبلغ في استدلالك البصيرة، وفي إرشادك الحقيقة، وفي إشارتك الغاية"[1].
وقال ابن قيم الجوزية - رحمه الله -: "الحِكْمَة: فعل ما ينبغي، على الوجه الذي ينبغي، في الوقت الذي ينبغي"[2]، ومن هنا فإن داود عليه السلام مع ملكِه العظيم، ومع ما يملك من أمور الدنيا، فإن حكمته قد منحته الفرصة ليقدر الله - جل جلاله - حق قدره، وكانت حكمته تدعوه دائمًا ليكون عليه السلام ملكًا عبدًا ناسكًا شاكرًا لله جلَّ جلاله؛ فعن أبي عطاء قال: "كان داود عليه السلام إذا قرب الإناء من فيه ليشرب فذكر خطيئته، بكى حتى يفيض الإناء من دموعه"[3]، و"كان داود عليه السلام يذكر ذنوبه فيَخاف الله مخافة تَنفرِج أعضاؤه ومفاصله من مواضعها، ثم يذكر رحمة الله على أهل الذنوب، ورأفته بهم، فيرجع كل عضو إلى موضعه"[4]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه: ((فصُمْ صيام داود عليه السلام))، قال: وكيف كان داود يصوم يا نبي الله؟ قال: ((كان يصوم يومًا ويفطر يومًا، ولا يَفرُّ إذا لاقى))[5].
أما صلاته عليه السلام، فعن عمرو بن العاص رضي الله عنه أخبر أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: ((أحَبُّ الصلاة إلى الله صلاةُ داود عليه السلام، وأحَبُّ الصيام إلى الله صيام داود، وكان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه ويَنام سدسه، ويصوم يومًا، ويفطر يومًا))[6].
وحتى يكون القائد حكيمًا ينبغي أن يتمتع بثلاث صفات:
الأولى: العلم، فلا حكمة من غير علم بأن هذا الأمر أو ذاك فيه الخير أم هو مصدر للشر، فإذا علم القائد ذلك وضعَه في محلِّه.
الثانية: الحلم؛ وفيه يُسيطر القائد على الجانب العاطفي، ويوازنه مع الجانب العقلي، فلا تصدر قراراته أو أحكامه بالعاطفة، فهي تأتي في محلها.
الثالثة: الأناة؛ فقرارات القائد الإيجابي تحتاج إلى روية وأناة، فيأخذ الوقت الكافي للتفكير والاستشارة قبل اتخاذ القرار، فتأتي القرارات بعد دراسة وتأمل فتكون صائبة.
والحكمة نوعان:
الأولى: حكمة فطرية؛ وهي منحة يَهبها الله - جل جلاله - لمن يشاء من عباده، فحين يمنحها للقائد فقد منح الخير الكثير، وسيعم هذا الخير الكثير الرعية؛ قال تعالى: ﴿ يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [البقرة: 269]، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد كتب لأبي موسى الأشعري رضي الله عنه: "إنَّ الحِكْمَة ليست عن كِبَر السِّن، ولكنَّه عطاء الله يعطيه من يشاء، فإيَّاك ودناءة الأمور، ومُرَّاق[7] الأخلاق"[8].
الثانية: حكمة مُكتسبة؛ وفيها يجتهد القائد بطلب العلم المؤدي إلى الحكمة، ثم بالتدريب على بعض البرامج واكتساب المهارات التي تؤدي إليها، وامتلاك أدواتها، ثم اكتساب الخبرة اللازمة في العمل المتخصِّص، أو في الحياة بشكل عام.
1- العلم: والعلم الذي آتاه الله - جلَّ جلاله - لنبيه داود عليه السلام نوعان:
أ- العلم الشرعي؛ فهو عليه السلام أحد أنبياء الله - جلَّ جلاله - فضلاً عن كونه مِن الأنبياء الذين أُنزل عليهم كتاب سماويٌّ، وهو (الزبور) والذي فيه من علم الله - جلَّ جلاله - قال تعالى: ﴿ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا ﴾ [الإسراء: 55].
ب- العلم المادي: فقد علَّم الله - جل جلاله - داود عليه السلام صَنعة لم يسبقه بها أحد في عالم الصناعة حينئذٍ؛ قال تعالى: ﴿ وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ ﴾ [الأنبياء: 80]، فإنَّ الله - جل جلاله - علَّم داود عليه السلام صناعة الدروع بطريقة جديدة؛ حيث كان الدرع قبله عليه السلام قطعة حديدية، فعلمه الله - جل جلاله - صناعة الدروع المنسوجة من الحديد، وفي ذلك دلالة على أن القائد عليه أن يُتابع ويشرف بنفسه على صناعة المعدات الحربية الخاصة بدولته أو جيشه؛ قال تعالى: ﴿ أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [سبأ: 11]، مع ملاحظة ربط هذه الصناعة بالعمل الصالح الذي هو المعبِّر عن التقوى، ثم إنَّ الله - جل جلاله - ألانَ له الحديد كجزء مكمِّل للصناعة التي اختص بها داود عليه السلام؛ قال تعالى: ﴿ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ ﴾ [سبأ: 10]، وإنَّ لين الحديد بيدِ داود عليه السلام له دلالة مهمة؛ فالحديد في سياق القرآن الكريم متعلِّق بالبأس؛ قال تعالى: ﴿ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ [الحديد: 25].
وإنَّ عموم ما أُعطي النبي القائد داود عليه السلام من ربه - جل جلاله -:
• مُلك عظيم.
• علَّمه الزبور.
• أعطاه الحكمة وفصْل الخطاب.
• علَّمه صناعة الدروع المنسوجة.
• ألانَ له الحديد.
• سخَّر له الجبال يُسبِّحْن والطير.
• الشُّكر: فقد جاء الخطاب القرآني لداود عليه السلام بأن يشكر الله تعالى، ليس هو فحسب؛ بل هو وآله؛ قال تعالى: ﴿ اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ﴾ [سبأ: 13]، ولقد وُفِّق داود عليه السلام؛ لأنْ يكون عبدًا من عباد الله الشاكرين، والشاكرون هم القلَّة من عباده - جلَّ جلاله - جاء في تفسير ابن كثير: "قال فُضَيل في قوله تعالى: ﴿ اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا ﴾ [سبأ: 13]: قال داود عليه السلام: يا ربِّ، كيف أشكرك، والشكر نعمة منك؟ قال: الآن شكرتني حين قُلتَ: إنَّ النِّعمة منِّي، وعن ثابت البناني قال: كان داود عليه السلام، قد جزَّأ على أهله وولده ونسائه الصلاة، فكان لا تأتي عليهم ساعة من الليل والنهار إلا وإنسان من آل داود قائم يصلي، فغمرتهم هذه الآية: ﴿ اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ﴾ [سبأ: 13]"[9].
وللشُّكر ثلاثة أركان، إن تحقَّقت كان العبد شاكرًا، وهذه الأركان هي:
أ- أن يَعترف العبد أنه في نعمة من خلقه - جلَّ جلاله - على الحال التي هو عليها، فالقياس في الشُّكر في أمور النِّعم يكون بالنظر لمن هو أدنى مرتبةً في الدنيا، فمَن له عينٌ واحدة يكون في نعمة لمَن فقد كلتَا عينَيه، ومَن عنده درهم واحد هو في نعمة قياسًا مع مَن لا درهم له، ومن لا درهم له هو في نعمة لمن في رقبته دَين، وهكذا.
ب- إن هذه النعمة التي هو فيها، إنما هي من الله وحده - تبارك وتعالى - وليس من كدِّه ولا كدِّ أبيه، وليس لقدراته العقلية ولا البدنية شأن في ذلك، فإنَّ الله - جل جلاله - يختار النعم فينعم بها على من يشاء من عباده؛ قال تعالى: ﴿ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ [المائدة: 54]، وقال تعالى: ﴿ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴾ [الجمعة: 4].
جـ- أن يَصرف هذه النِّعمة التي هو فيها في طاعة الله جلَّ جلاله، وطاعة الله تعالى تكون في المواضع التي يُحبُّها الله تعالى؛ ولهذا حين رأى سليمان بن داود عليهما السلام أنَّ نِعمة الخَيل التي تُغير في الجهاد في سبيل الله - جل جلاله - والتي وهَبها الله - جلَّ جلاله - له أنها شغلته عن هدفِه الأسمى، وهو رضا الله وذكره وطاعته، اتخذ بشأنها قرارًا صائبًا أثنى الله تعالى عليه في القرآن؛ فقال تعالى: ﴿ إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ * فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ * رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ ﴾ [ص: 31 - 33]، فلا يَنبغي أن ينشغل القائد الإيجابي بأمور الدنيا وزينتها عن الوظيفة الرئيسية التي يعمل من أجلها، وأوَّلها طاعة ربه - جلَّ جلاله.
• إنه أوَّاب: وقد وصَفه القرآن الكريم بقوله تعالى: ﴿ اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ ﴾ [ص: 17]، جاء في "الزاهر في معاني كلمات الناس" للأنباري: (وقولهم: رجل أَوَّابٌ، قال أبو بكر فيه سبعة أقوال:
• قال قوم: الأواب: الراحم.
• وقال قوم: الأوَّاب: التائب.
• وقال سعيد بن جبير: الأواب: المُسبِّح.
• وقال سعيد بن المسيب: الأواب: الذي يُذنب ثم يَتوب ثم يُذنِب ثم يَتوب.
• وقال قتادة: الأوَّاب: المُطيع.
• وقال بعض أهل العلم: الأواب: الذي لا يتكلَّم حتى يبدأ ببسم الله، ويَختم ببسم الله.
• وقال عُبيد بن عُمير: الأوَّاب: الذي يَذكُر ذنبَه في الخلاء فيستغفر الله منه.
• وقال أهل اللغة: الأواب: الرَّجَّاع الذي يَرجع إلى التوبة والطاعة، مِن قولهم: قد آب يؤوب أَوْبًا: إذا رَجَع، قال الله - عز وجل -: ﴿ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ ﴾ [ق: 32]، وقال عَبيد بن الأبرص:
وكلُّ ذي غيبةٍ يؤوبُ
وغائبُ الموتِ لا يؤوبُ[10]"
• وقَّافٌ عند الحق: ولأنَّ القائد هو القدوة لمن معه، فلا بدَّ له مِن أن يتَّصف بصفة الرجوع إلى الحق أينما كان، ومتى ما كان، فقد تراجع النبي داود عليه السلام عن موقفه ما أنْ عرَف أنه لم يحكم على مراد الله - جلَّ جلاله - في الحكم بين الشخصين المختصمين في قضية النَّعجة؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ * قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ ﴾ [ص: 23، 24].
كما تراجَعَ عليه السلام عن حكمِه بين صاحب النِّعاج وصاحب مزرعة العِنَب، وما يَلفت النظر في هذه القضية أنَّ مَن صحَّح للملك داود عليه السلام هو ولده سليمان عليه السلام؛ قال تعالى: ﴿ وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا ﴾ [الأنبياء: 78، 79]، ولقد تراجع داود عليه السلام وعاد إلى الحق ووقَف عنده، ولم يَستنكف مِن أن مَن بيَّن له الخطأَ ولده الذي جاء من صلبِه.
وحين يكون القائد وقافًا عند الحق، فإن ذلك يُحقِّق مجموعة من الفوائد، ومنها:
• أن الوقوف عند الحق يدلُّ على إخلاص القائد لقضيته، فليس لمَن يقف عند الحق من حظوظ النفس حصة، وهو دليل على التضحية.
• تربية نفس القائد على الرضوخ للحق؛ لأنَّ هذه الصفة تحتاج إلى المران المستمر.
• إشاعة مفهوم الحق بين أعضاء الفريق الذي يقوده، وهو القُدْوة في هذه الصفة، فسيُحاول الأتباع أن يتَّصفوا بهذه الصفة.
-----------------------------------------------------------------------------------------
[1] منازل السائرين؛ عبدالله الهروي الأنصاري، (ص: 78).
[2] مدارج السالكين بين منازلِ إياك نعبد وإياك نستعين؛ ابن قيم الجوزية (2 / 479).
[3] المطالب العالية؛ للحافظ ابن حجر العسقلاني - كتاب أحاديث الأنبياء - باب ذكْر داود.
[4] شُعَب الإيمان؛ للبيهقي - الثاني عشر من شعب الإيمان، باب في الرجاء مِن الله تعالى.
[5] صحيح مسلم - كتاب الصيام، باب النَّهي عن صوم الدهر لمَن تضرَّر به أو فوَّت به حقًّا.
[6] صحيح البخاري - كتاب الجمعة، أبواب تقصير الصلاة - باب من نام عند السحر.
[7] مراق الأخلاق: فسادُها، يقال: مرقَت البيضة إذا فسدت.
[8] الإشراف في منازل الأشراف؛ ابن أبي الدنيا (ص: 212).
[9] تفسير القرآن العظيم؛ ابن كثير الدمشقي (3 / 638).
[10] الزاهر في معاني كلمات الناس؛ أبو بكر محمد بن القاسم الأنباري (1 / 106).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ