من صور حبِّ أبي بكر للنبي صلى الله عليه وسلم
فمحبة الرسول صلى الله عليه وسلم واجبة على كل مسلم، ولا يكتمل إسلامه إلا بها؛ قال الرسول صلى الله عليه وسلم كما في صحيح البخاري: ((لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين))[1]، فمحبة الرسول صلى الله عليه وسلم يجب أن تتقدم على كل شيء، حتى على النفس؛ فقد جاء في الحديث أن عمر رضي الله عنه قال للنبي: ((والله يا رسول الله لأنت أحب إليَّ من كل شيء إلا من نفسي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده، لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه، فقال عمر: فأنت الآن والله أحب إليَّ من نفسي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الآن يا عمرُ))[2].
إن هذه المحبة للرسول صلى الله عليه وسلم جسَّدها الصحابة رضوان الله عليهم في حياتهم قولًا وفعلًا؛ فالمحبة لا تعني الشعور القلبي فقط، بل صورها كثيرة، أهمها تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم، واتباعه، والغَيرة عليه، وعلى دينه، والدفاع عنه بكل الوسائل والأشكال الشرعية، وأبو بكر الصديق أكثر الصحابة الذين نقرأ عن مواقفه التي تعكس حبه الشديد للرسول صلى الله عليه وسلم، ولعل حب الرسول صلى الله عليه وسلم له يعكس هذه الحقيقة؛ ففي الحديثعن أبي عثمان، قال: حدثني عمرو بن العاص رضي الله عنه، ((أن النبي صلى الله عليه وسلم، بعَثه على جيش ذات السلاسل، فأتيته فقلت: أي الناس أحب إليك؟ قال: عائشة، فقلت: مِنَ الرجال؟ فقال: أبوها...))[3]، ويُجمِع العلماء من خلال هذا الحديث إلى أن أبا بكر هو الأحب من الرجال إلى رسول الله، ومما لا شك فيه أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان أحبَّ الخلق إلى أبي بكر.
لقد سطَّر أبو بكر رضي الله عنه أسمى صور الحب بأشكال مختلفة؛ حيث إن الحب عنده يظهر في شكله القلبي المشهور، ويتجاوزه ليُترجَم إلى سلوك ملموس، وهذا الجانب الثاني يظهر في نصرة الرسول بنفسه وماله، وأهله وخدمه، كما يظهر في إيثاره للرسول على نفسه، واتباعه له، وغَيرته عليه، والمجال في الحقيقة لا يتسع للإحاطة بصور حب أبي بكر للرسول صلى الله عليه وسلم؛ لذلك أكتفي بذكر تصديقه للرسول صلى الله عليه وسلم، هذا التصديق الذي أرى أنه وجه من وجوه الحب.
إن التصديق محبةٌ، وهذا يعني أن عبدالله بن عثمان رضي الله عنه - أبا بكر الصديق - هو أكثر الناس حبًّا للرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه أول من صدقه وآمن به، فقد روى ابن إسحاق قائلًا: حدثني محمد بن عبدالرحمن بن عبدالله الحصين التميمي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما دعوت أحدًا إلى الإسلام، إلا كانت عنده كَبْوَة وتردد ونَظرٌ، إلا أبا بكر ما عكَم عنه - ما تباطأ - حين دعوته، ولا تردَّدَ فيه))[4].
وقد نال أبو بكر شرف لقب الصِّدِّيق - صيغة مبالغة في الفعل صدق - لأنه صدَّق النبي صلى الله عليه وسلم في قصة الإسراء والمعراج، ودليل هذا اللقب الذي ناله أبو بكر رضي الله عنه بجدارة أحاديث كثيرة؛ منها: عن أنس بن مالك رضي الله عنه، ((أن النبي صلى الله عليه وسلم صعِد أُحُدًا، وأبو بكر وعمر وعثمان، فرجف بهم، فقال: اثبُتْ أُحُدُ؛ فإنما عليك نبيٌّ وصِدِّيق وشهيدان))[5]، وأجمع العلماء على أن أبا بكر هو المقصود بالصِّدِّيق، كما أكد ذلك التاريخ؛ حيث استشهد عمر وعثمان رضي الله عنهما.
لقد صدَّق أبو بكر الرسولَ صلى الله عليه وسلم في قصة الإسراء والمعراج بعدما كذبه الناس، بل كذبه بعض من آمن به، وارتدوا على أدبارهم خاسرين، لكن الصِّدِّيق آمن وصدَّق، وهذا ما ترويه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها؛ فتقول:
((لما أُسري بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الأقصى، أصبح يتحدث الناس بذلك، فارتد ناس كانوا آمنوا به وصدَّقوه، وسعى رجال إلى أبي بكر فقالوا: هل لك إلى صاحبك؟ يزعُم أن أُسرِيَ به الليلة إلى بيت المقدس، قال: وقد قال ذلك؟ قالوا: نعم، قال: لئن قال ذلك فقد صدق، قالوا: أو تصدقه أنه ذهب الليلة إلى بيت المقدس، وجاء قبل أن يصبح؟ قال: نعم؛ إني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك، أصدقه بخبر السماء في غَدوة أو رَوحة))[6].
وهذا الحديث يدل على عِظَمِ محبة الصِّدِّيق للرسول صلى الله عليه وسلم، إنها محبة لا تغيِّرها المرجفات والأكاذيب، ولا الشائعات والوساوس، إنها محبة خالصة، صادقة تقف في وجه الكائدين والنمَّامين، ولا تتأثر بمواقف الآخرين أو الجماعة والأغلبية، فالصِّدِّيق لم يلتفت لغرابة القصة واستحالتها عقلًا من منطق مادي لا يربِط الأرض بالسماء، ولا يربُط النتائج بأسبابها الغيبية، هذا المنطق الناقص لم يستعمله أبو بكر رضي الله عنه، بل آمن وصدق دون نظر أو تحليل عميق، بل بمنطق بسيط يقول: إذا آمنت أن محمدًا رسول من الله حقًّا وصدقًا، فهذا يستلزم أن أؤمن بكل ما يأتي به، وافق ذلك عقلي أو خالفه، كما أن الصديق رضي الله عنه لم يلتفت لردِّةِ الكثير من أصحاب الإيمان الضعيف، فلم يكن إمَّعة يتأثر بغيره، بل له قناعاته الخاصة التي تأسست على حب شديد للرسول صلى الله عليه وسلم، وتأسست على إيمان وتصديق قويين، رسختهما معاشرته للرسول صلى الله عليه وسلم قبل وبعد بعثته، وإذا كان الصديق رضي الله عنه لم يلتفت لردة بعض المسلمين، فإنه سطَّر موقفًا تاريخيًّا أصاب الكفار في مقتل، فبعد أن اعتقدوا أنها الضربة القاضية التي ستقصم ظهر الرسول صلى الله عليه وسلم، وستفرق الأتباع من حوله، يفاجئهم أبو بكر رضي الله عنه بتصديقه اللامشروط، رغم أنهم سعَوا إلى زعزعة إيمانه وتصديقه، وأنى لهم ذلك، فهو قد وقف كالجبل الأشم ثابتًا على موقفه، لا ينال من إيمانه شيء، ولا شك أن أساس هذا الموقف محبة عظيمة للرسول صلى الله عليه وسلم.
إن محبة النبي صلى الله عليه وسلم أصبحت اليوم في الغالب إحساسًا باردًا في القلب، وكلمات جوفاء تلوكها الألسن، وقلما نجد محبًّا صادقًا لرسول الله، فكيف يدَّعِي الحب من لا يتبع النبي؟ وكيف يدعيه من لا يستنُّ بسنته؟ وكيف يدعيه من لا يوقِّر أصحابه؟ وكيف يدعيه من يردُّ أحاديث النبي الصحيحة؛ لأنها لا توافق عقله ومنطقه؟
يجب علينا أن نعيد النظر في حبِّنا لرسولنا، فأول شرط في الحب هو التصديق الكامل واللامشروط للرسول صلى الله عليه وسلم، في كل صغيرة وكبيرة، ما دام قد ثبت أن الرسول قالها، ثم علينا كأبي بكر أن يتحول الحب والتصديق إلى أفعال واقعية على هَدْيِ النبي في كل مناحي حياتنا، وهذا يتطلب البحث في سيرة الحبيب للاقتداء به، وأخيرًا علينا الثبات على حبنا وتصديقنا، وألَّا يُغيِّرَ حبنا وتصديقنا للنبي صلى الله عليه وسلم كائنٌ ما كان، أو مَن كان.
وفي الختام أسأل الله أن يرزقنا حبه، وحب رسوله، ودينه، وجميع المسلمين.
-------------------------------------------------------------------------------------------
[1] صحيح البخاري، ج1، رقم 15، تح: محمد زهير بن ناصر الناصر، دار طوق النجاة، ط1، 1422هـ.
[2] صحيح البخاري، ج8، رقم 6632.
[3] صحيح البخاري، ج5، رقم 3662.
[4] نقلا عن ابن كثير، السيرة النبوية، تح: مصطفى عبدالواحد، دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع بيروت – لبنان، 1395 هـ - 1976 م، ص 433.
[5] صحيح البخاري، ج9، 3675.
[6] مستدرك الحاكم، ج3، رقم 4407، تح: مصطفى عبدالقادر عطا، دار الكتب العلمية - بيروت، ط1، 1411 - 1990.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ