عُيِّن مِن قِبَل الخليفة عمر بن الخطاب - عليهما من الله الرضا والرِّضوان - واليًا على "حِمْص"، والتي كانت تُدْعَى "الكويفة الصغرى"، فماذا فعل؟ وماذا صنع؟ بَقِي عامًا كاملاً لا يدري الخليفة ما فعل، انتابت الوساوس الخليفة، لعلَّه خَانَنَا، لعلَّه، عام كامل يمضي ولا خبر! فكتب إليه عمر بن الخطاب: "إذا جاءك كتابي هذا، فأقبل، وأقبل بما جبيت من فَيء المسلمين تنظر كتابي هذا".
فما كان منه إلاَّ أن لبَّى الدعوة متجهًا إلى المدينة قادمًا من "حِمْص"، ما ركب سيَّارة، ولا قطارًا، ولا طائرة، فهذه لم تكن على عهده، ولا امتطى جوادًا، ولا أناخ بعيرًا، ولا هيَّأ الحقائب والأحمال، ولوازم السفر، بل أخرج جرابًا له جمع فيه زاده وقصعته وإداوته، إذا شعر بالعطش شرب، وإذا حان وقت الصلاة توضأ، ثم ماذا أيضًا؟ لا بد من سلاح في مثل هذه الرحلة، وسلاحه كان عنزةً له يتوكَّأ عليها لا تفارق يده، رحلة تمتد من بلاد الشام إلى المدينة، عليه أن يقطع المسافة ماشيًا، إنها الهِمَّة العالية والنفس الأَبيَّة التي تجعل الوالي يسير كلَّ هذه المسافة مشيًا.
إنه سِباق الحقِّ والباطل، والحقُّ سابق، ولا يستوي عند الله الحق والكذب، والحقُّ ما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - والكذب ما سواه، إنه الاختيار بين سؤال الله، وبين سؤال البشر، إنها الاستعانة بالخالق فقط بعيدًا عن الاستعانة بالمخلوق، الرحلة تمتد لأشهرٍ، في أيِّ فندق ينزل؟ وأيَّ طريق يسلك؟ وأي وسيلة يركب؟
كان في النهار يسير، يصلي فرضه، وفي الليل يفترش الأرض، ويلتحف السماء، ويقوم للصلاة داعيًا ربَّ الأرض والسماء، وصل "المدينة" بعد مسيرة شاقَّة شاحب اللون، مغبرَّ الوجه، طويل الشعر، سلَّم على الخليفة: السلام عليك يا خليفة رسول الله، وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، ولكن ما بك؟ ماذا فعلت؟
عمير: ما ترى يا أمير المؤمنين، ألست تراني سليم الجسد، طاهر الدَّم، كأنَّما حِيزت لي الدنيا بحذافيرها، أجرُّها بقرنها؟
وما معك؟
جرابي أجعل فيه زادي، وقصعتي بها آكل، وإدواتي فيها وضوئي وشرابي.
وماذا أيضًا؟ وكيف أتيت؟
ماشيًا أيها الخليفة.
أما وجد في كلِّ البلد مَن يُعطيك دابةً تركبها؟
هم لم يعطوني، وأنا لم أسألهم.
لبئس القوم الذين خرجت من عندهم.
اتقِ الله يا عمر؛ فقد نهاك الله عن الغيبة، ولقد خرجت مِن عندهم وهم يُصلُّون الغداةَ.
أين ما بعثتك به؟ وأيَّ شيءٍ صنعتَ؟
جمعت صُلحاء البلد، فجمعوا الفَيء، فوضعته في موضعه، ولو نالك منه شيءٌ، لأتيتك به.
أتعني أنَّك ما جئتنا بشيء؟
لا.
جدِّدوا لعمير عهدًا.
لا لن يكون لك، ولا لأحد بعدك؛ والله ما سلمت، بل لم أسلم، لقد قلت لنصراني: أخزاك الله، فهذا ما عرضتني له يا عمر، وإنَّ أشقى أيامي يوم خُلِّفت معك.
استأذن عمر، وعاد إلى منزله الذي يبعد أميالاً عن المدينة.
أرسل على أثره الحارث، وأعطاه مائة دينار، وأوصاه أن يعطيها عميرًا إن رأى أن حاله لا تسر، وإلا عاد بها، وأن ينزل ضيفًا عليه؛ ليعرف حاله.
ماذا كان يفعل عمير؟ وماذا كان يأكل؟ وكيف كان منزله؟ وكيف كان فرشه؟ وما الطعام الذي قدم إلى الحارث؟
قرصة من شعير كانت تقدَّم إلى الحارث؛ لأنه الضيف، بينما بقيت الأسرة أيامًا ثلاثة بلا طعام، حال لا يمكن أن يتصورها بشرٌ في المعمورة في هذه الأيام.
أيعقل أن يكون أمير البلد وواليها طعامه من خبز الشعير فقط؟! هؤلاء هم الصحابة آثروا الآخرة على الدنيا، واختاروا ما عند الله، هؤلاء الذين لم يبصروا إلا مصلحة الأمة، ولم يعيشوا إلا هموم الدعوة، هؤلاء وأهلهم رهطٌ آمنوا بالله، وصحبوا نبيَّه - عليه الصلاة والسلام - وصدَّقوا دعوته، وعاشوا لها أمراء ورعايا، فكانوا على السواء، لا تُميز تابعًا من متبوع، ولا رئيسًا من مرؤوس، ولا واليًا من مولى، ولا سيدًا من عبد.
جلس مبعوث الخليفة عند عمير ثلاثة أيام ما عرف كيف تحمَّلها، شعر بالشدة والجهد، فأخرج الدنانير، وقال: إنها من الخليفة لك، صاح الرجل: رُدَّها؛ لا حاجة لي بها، تدخلت امرأة الرجل: إن لم يكن لك بها حاجة، فادفعها إلى ذوي الحاجات في الحي.
ولكني لا أجد ما أضعها به، تناولت المرأة سِكِّينًا وقطعت به قطعة من ثوبها، ودفعتها إليه، وضعها في الخرقة، وخرج بها إلى عائلة فلان قسمًا، وإلى الفقير الفلاني قسمًا، وإلى اليتيم الفلاني قسمًا، قسمها بسرعة وعاد ليجد الحارث بانتظاره، والذي ظنَّ أنه سيعطيه قسمًا، لكنه عاد بالخرقة فقط فارغة لا درهم فيها ولا دينار، أقْرِئ أمير المؤمنين السلام.
وصل الحارث إلى عمر بن الخطاب، كيف وجدت الرجل؟
بشدة ما بعدها شدة.
ماذا فعل بالدنانير؟
رفضها في البداية، ثم خرج بها في خرقة وعاد بالخرقة فارغة، لا أدري ما فعل بها.
أيها الكاتب، اكتب إذا وصلك كتابي، فالْحقْ بي في "المدينة" حالاً.
عمر بن الخطاب: أرسلوه إلى عمير.
وثانية وجد عمير نفسه بمواجهة عمر - رضي الله عنه -: ماذا فعلت بالدنانير؟
صنعت بها ما صنعت.
بالله عليك أخبرني ماذا فعلت بها؟
قدمتها لنفسي.
ضعوا له ستين صاعًا من شعير وثوبين.
أيها الخليفة: أمَّا الطعام: فلا حاجة لي به؛ فقد تركت ورائي صاعين من شعير يكفياني إلى أن يأتي الله بالرزق، وأمَّا الثوبان: فلولا أنَّ أمَّ فلان - يعني زوجته - عارية ما أخذتهما.
ثمَّ لم يلبث أن هلك عمير بن سعد، فسار عمر إلى بقيع الفرقد، وسار معه البعض، فقال عمر: لِيَتَمَنَّيَنَّ كلٌّ منكم أمنيةً، فقال أحدهم: لو أنَّ لي من المال كذا، لأنفقتها في سبيل الله.
وقال آخر: لو أن لي من المال كذا وكذا، لحررت كذا وكذا من رِق العبودية، وقال ثالث: لو أن لي قوة أمتاح بها ماء زمزم؛ أسقي بها حجيج الرحمن.
ثم قالوا: تمنَّى أيها الخليفة، فقال عمر - رضي الله عنه -: لو أن لي رجلاً مثل عمير بن سعد أستعين به في أعمال المسلمين.
رضي الله عن عمر وعمير، ورضي الله عن سائر الصحابة، وغرس محبتهم في قلوبنا ودمائنا.
هذه الرواية موجودة في كتاب "الصحابة"؛ لـ يوسف الكاندهلوي، بقي أن نذكر أن الصحابي عمير بن سعد قائد كان يُسمَّى نسيج وحده، وأن أباه سعد القارئ كان من الأربعة الذين جمعوا القرآن على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنه شهد بدرًا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ولقي ربَّه في القادسية عام ستة عشر للهجرة، إضافة لذلك هناك روايات تختلف عن هذه الرواية يمكن الرجوع إليها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ