المسجد الأقصى يمثل معنى عميقًا في حسّ المسلم, فهو ثاني بيت بني بعد بيت الله الحرام لحديث أبي ذر رضي الله عنه قلت: يا رسول الله! أي مسجد وضع في الأرض أول؟ قال: ((المسجد الحرام)) قلت: ثم أيّ؟ قال: ((المسجد الأقصى)) قلت: كم بينهما؟ قال: ((أربعون سنة, وأينما أدركتك الصلاة فصلِّ فهو مسجد))([1]).
ولذلك ربط الله بينهما في قرآنه الكريم، قال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [سورة الإسراء: آية 1].
ونالت فلسطين التشريف بكونها أرض الإسراء، والتي غدت وقفًا إسلاميّا من يوم تَسلَّم مفتاحَ بيت المقدس أميرُ المؤمنين عمرُ بن الخطاب رضي الله عنه… ومنذ ذلك العهد حافظ المسلمون على قبلتهم الأولى التي وجههم الله تعالى إليها سنوات من صدر الإسلام تشريفا لهم بصلاتهم إلى قبلة أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام، ولربطهم روحيا وعمليا بالمسجد الذي يلي المسجد الحرام بالقدم، ويلي مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفضيلة، فكانت الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة، وفي المسجد النبوي بألف صلاة وفي المسجد الأقصى بخمسمائة صلاة.
ولقد عمق رسول الله صلى الله عليه و سلم الصلة الدينية بين المسجد الأقصى و البيت الحرام ومسجده أن جعله مما تشد الرحال إليه عبادة لله لحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: (( لا تشد الرحال إلا لثلاث مساجد؛ المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الاقصى))([2]).
أما تكريم المسجد الأقصى والدليل على كونه أرضًا إسلاميّة حتى قيام الساعة؛ صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه إمامًا بجميع الأنبياء، فنال المسجد الأقصى بذلك شرفًا على شرف، وفيهم أولو العزم من الرسل نوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام… إن اقتداء الأنبياء برسولنا محمد صلى الله عليه وسلم في المسجد الأقصى عبارة عن شهادة من هؤلاء الأنبياء الكرام بأنه خاتم الأنبياء وكتابه خاتم الكتب، وأن شريعته خاتمة الشرائع الناسخة لما قبلها… وأنه وأمته وراث النبوات والأرض المباركة والمسجد الأقصى.
ولقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن خير أنواع الجهاد هو الرباط وهو مراقبة العدو ومنعه من انتهاك حرمات الأمة، وأن خير هذا الرباط ما كان قريبا من بيت المقدس، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَوَّلُ هَذَا الْأَمْرِ نُبُوَّةٌ وَرَحْمَةٌ، ثُمَّ يَكُونُ خِلَافَةً وَرَحْمَةً، ثُمَّ يَكُونُ مُلْكًا وَرَحْمَةً، ثُمَّ يَكُونُ إِمَارَةً وَرَحْمَةً، ثُمَّ يَتَكادَمُونَ عَلَيْهِ تَكادُمَ الْحُمُرِ فَعَلَيْكُمْ بِالْجِهَادِ، وَإِنَّ أَفْضَلَ جهادِكُمُ الرِّبَاطُ، وَإِنَّ أَفْضَلَ رباطِكُمْ عَسْقَلَانُ))[3].
وقد جاء في السنة أن طائفة منصورة من أمة الإسلام ستكون ظاهرة على الحق إلى قيام الساعة وأنهم على أطراف بيت المقدس، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الدِّينِ ظَاهِرِينَ لَعَدُوِّهِمْ قَاهِرِينَ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ إِلَّا مَا أَصَابَهُمْ مِنْ لَأْوَاءَ – أي أذى – حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كَذَلِكَ)). قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ وَأَيْنَ هُمْ؟ قَالَ: ((بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ وَأَكْنَافِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ))[4]
منازعة الباطل الحق وأهله:
لقد فتح المسلمون بيت المقدس في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، واستخلصوه مرة أخرى من الرومان و الصليبيين بأمر الله في زمن الناصر لدين الله صلاح الدين الأيوبي، وقدّموا في سبيل ذلك الآلاف من الشهداء الذين روَّت دماؤهم الزاكية أرض فلسطين وحافظوا عليه مكرّمًا مصونًا لا يدنّس أرضه شيءٌ حتى القرن الخامس عشر الميلادي…
في القرن الخامس عشر الميلادي وبعد احتلال الأندلس وتهجير أهلها قسرًا أو تنصيرهم جبريًّا مسلمين وبروتستانت ويهود قامت الدولة العثمانية باستقبال هؤلاء المهجرين وكثير منهم من اليهود لينعموا بالأمان والحرية في أرض الإسلام.
كان اليهود المشتتون في العالم يحسدون يهود الدونمة الذين يعيشون مكرمين في سلانيك التي كانت إحدى مدن العثمانيين المهمة، ويتمنون أن يعيشوا عيشتهم، وبالفعل ما أن اضطهد اليهود في إسبانيا حتى قامت الخلافة العثمانية بتحقيق أمانيهم في العيش بأمان وسلام فاستقبلتهم ورعتهم وحفظتهم من الاضطهاد ووقفت بجانبهم، ولكن اليهود قوم من غدر يسيئون إلى من أحسن إليهم ويطعنون من ائتمنهم في ظهره.
ما أن كشرت أوروبا عن أنيابها ضد الدولة العثمانية حتى صار اليهود مخالب شريرة لتنفيذ أطماع أوروبا في قلب بلاد المسلمين، قامت أوربا بالتواصل مع هؤلاء الخونة ووعدتهم بإنشاء وطن قومي لهم في أرض فلسطين إن هم ساندوها في حربها على الخلافة العثمانية… وكانت تهدف أوربا من ذلك أن تحتل نقطة التقاء لها بين الشرق والغرب، وهكذا خططت لاحتلال فلسطين احتلالًا طويل الأمد عبر غرز خنجرها اليهودي المسموم في قلب الشرق المسلم في فلسطين وسويدائه القدس الشريفة…
إن فلسطين بالنسبة لأوربا مفتاح استراتيجي مهم لمنطقة الشرق الأوسط، وإن التقاء مصالح الأوروبيين مع مطامع اليهود الصهاينة في فلسطين شكّل فرصةً ذهبيّة أمام الإنكليز لاستخدام الوجود اليهودي في الشرق الأوسط وأموالهم الضخمة في أوربا في حربها على الخلافة العثمانية.
ومن أجل تنفيذ هذا المخطط فقد ابتكر الصهاينة خطة تجميع يهود الشتات عبر مشروع (الدولة اليهودية في فلسطين) لاتخاذها وطنًا قوميًّا لهم، إذ هذا هو الهدف العقائدي للحركة الصهيونية التي أسّسها الصحافي اليهودي تيودور هرتزل سنه 1895م؛ بدعم وتوجيه من الحكومة البريطانية والقيادات اليهودية في أوربا… وقد اتخذت هذه الحركة اسمها من جبل صهيون القريب من القدس، وباعتبار هرتزل قائدًا لهذه الحركة فقد دعا إلى مؤتمر يوضح فيه مشروعه في بازل السويسرية سنة 1897م ([5])، تلته عدة مؤتمرات أخرى.
اليهود والبحث عن وطن:
إن احتلال بلاد فلسطين والقدس المباركة لم يكن طفرة في السِّياسة البريطانية أو قفزة خارقة في القدرة اليهودية؛ وإنما كان نتيجة لتخطيط بريطاني طويل الأمد واتفاقات سرية ومعلنة بين الساسة البريطانيين وأباطرة المال اليهود، ولم يكن هرتزل إلا الصُّورة الظاهرة لهذا الاتفاق العميق.
إن كتاب (الدولة اليهودية) لتيودور هرتزل فيه التفاصيل الكافية للاطلاع على مراحل التخطيط للسيطرة على فلسطين.
لقد بدأت الفكرة حينما أعلن هرتزل عن حاجة اليهود للعيش في وطن قومي لهم يجمع شتاتهم وتحكمه دولة يهودية خالصة، وعندما قام هرتزل بوضع مشروعه لإقامة دولة يهودية وضع خيارين لهذا الوطن، وهما فلسطين أو الأرجنتين.
لقد قام هرتزل في كتابه (الدولة اليهودية) بطرح تساؤله عن اختيار اليهود بين فلسطين والأرجنتين، ثم أجاب على ذلك فقال: (إننا سنأخذ ما يُعطى لنا وما يختاره الرأي العام اليهودي، وسوف تقرره الجمعية)([6]) وقد تكلم عن الأرجنتين ذاكرًا مزاياها التي تخدم مشروع الدولة اليهودية، ولكنه عندما تكلم عن فلسطين قال: (هي وطننا التاريخي الذي لا تمحى ذكراه، فمجرد ذكر اسمها يجذب شعبنا بقوة هائلة)([7])، ولكنه وبتوجيه من البريطانيين والقيادات الصهيونية في أوربا لهرتزل تم التخلي عن فكرة الأرجنتين والتركيز على فلسطين.
وقد تكلم في كتابه عن ضرورة الرعاية الدولية لهجرة اليهود فقال: (عندما يشعر السكان المحليون أنهم مهددون سوف يجبرون الحكومة على إيقاف أي تدفق جديد لليهود ، وبالتالي فإن الهجرة لا جدوى منها ما لم تقم على أساس من هيمنة مضمونة) ويقصد بذلك ضمان وجود دولة تكفل لهم ذلك.
ومن خلال الكلام التالي لهرتزل نستطيع أن نعرف موضع خطة إقامة وطن لليهود في فلسطين من السياسة الدولية في الحرب على الشرق المسلم، يقول هرتزل: (إذا أخذنا فلسطين سوف تُشكل جزءًا من استحكامات أوروبا في مواجهة آسيا كموقع أمامي للحضارة الغربية في مواجهه البربرية، وعلينا كدولة طبيعية أن نبقى على اتصال بكل أوروبا التي سيكون من واجبها أن تضمن وجودنا)([8]).
المفاوضات مع السلطان عبد الحميد خان الثاني:
بعد الاتفاق البريطاني الصهيوني على تأسيس وطن لليهود على أرض فلسطين انتقلوا إلى مرحلة المساومة مع السلطان عبد الحميد، والذي كان بدوره يرصد تحركاتهم ومحاولاتهم في إثارة الأقلية الأرمنية، وشراء ذمم بعض الأتراك الماسونيين، للضغط عليه وإجباره على إعطائهم ما يريدون، يقول هرتزل عن خطة مساومة السلطان عبد الحميد (فإذا منحنا جلالة السلطان فلسطين سنأخذ على عاتقنا بالمقابل تنظيم مالية تركيا)([9]).
وأما عن رؤية السلطان عبد الحميد لتحركات وعروض اليهود فقد قال: (إذا كنا نريد أن يبقى العنصر العربي متفوقًا؛ علينا أن نصرف النظر عن فكرة توطين المهاجرين في فلسطين، وإلا فإن اليهود إذا استوطنوا أرضًا تملكوا كافة قدراتها خلال وقت قصير، ولذا نكون قد حكمنا على إخواننا في الدين بالموت المحتم)([10])
لقد أدرك السلطان أبعاد المشروع الصهيوني وتداعياته رغم العروض المغرية التي قدموها لإنقاذ الخلافة من مشاكلها الاقتصادية… ولما ساوموه بالمال بعد مقابلة هرتزل له قال: (لن يستطيع رئيس الصهاينة هرتزل أن يقنعني بأفكاره… لن يكتفي الصهاينة بممارسة الأعمال الزراعية في فلسطين بل يريدون أمورًا مثل تشكيل حكومة وانتخاب ممثلين، إنني أدرك أطماعهم جيداً)([11]).
وردًا على رفض السلطان لعروض اليهود قام اليهود بضم جمعية الاتحاد والترقي إلى مخططهم للضغط على عبد الحميد خان، يقول السلطان في رسالة له لشيخه أبي الشامات: (إن هؤلاء الاتحاديين قد أصروا علي بأن أصادق على تأسيس وطن قومي لليهود في الأرض المقدسة (فلسطين)، ورغم إصرارهم لم أقبل بصورة قطعية هذا التكليف، وأخيرًا وعدوا بتقديم مائة و خمسين مليون ليرة إنجليزية ذهبًا، فرفضت هذا التكليف بصورة قطعية أيضًا، و أجبتهم بهذا الجواب القطعي: إنكم لو دفعتم ملْء الدنيا ذهبًا فلن أقبل بتكليفكم هذا بوجه قطعي، لقد خدمت الملة الإسلامية و الملة المحمدية ما يزيد على ثلاثين سنة فلن أسود صحائف المسلمين آبائي وأجدادي من السلاطين والخلفاء العثمانيين… و بعد جوابي هذا اتفقوا على خلعي، و أبلغوني أنهم سيبعدونني إلى سلانيك، فقبلت بهذا التكليف الأخير، و حمدت المولى، و أحمده أنني لم أقبل بأن ألطخ العالم الإسلامي بهذا العار الأبدي الناشئ عن تكليفهم بإقامة دولة يهودية في الأراضي المقدسة…).
وحقيقة لم تمض سنوات حتى دفع السلطان عبد الحميد ثمن رفضه غاليًا، لقد خلع عن عرشه وحبس، وعلى إثر ذلك انهارت الخلافة وتلاشى سلطانها.
دعوى عداء السامية:
إن الطبيعة الشخصية اليهودية التي اتصفت بالغدر والبخل وحب الانتقام والمخاتلة والمكر والجبن؛ أدت إلى عيشهم كمنبوذين بين الشعوب التي وُجِدوا فيها في عموم أوربا، وقد أشار هرتزل في كتابه عن الدولة اليهودية إلى ذلك، ولكنه بدل أن يتحدث عن دور الأخلاق اليهودية في خلق هذه الحالة قام بإلقاء اللوم على الآخرين واتهامهم بالعنصرية والتطرف ضد الوجود اليهودي الذي يستحق العطف والرحمة.
وقد عمل هرتزل واليهود على صنع حالة تحدي للمجتمعات التي يعيشون فيها من خلال اتهامهم بالعداء للسامية اليهودية، وقد قصدوا من ذلك أن ينشروا بين اليهود الإحساس بالمظلومية بغية تجميعهم على فكرة موحدة تحملهم على التكاتف لنصرة مشاريع الحركة الصهيونية… كما استخدمت هذه الفكرة فيما بعد في تجريم أوربا ووظفت للحصول على وطن قومي لهم في أمريكا الجنوبية أو إفريقيا أو فلسطين.
وخلال فترات لاحقة استطاع اليهود تحريك الرأي العام الأوربي ومؤسسات حقوق الإنسان تجاه مصالحهم عبر تسويق فكرة العداء للسامية في أوربا محتجين بما فعله هتلر وبما سمي بالهولوكوست… وبالفعل فقد تعاطفت معهم الكثير من الشعوب والحكومات الغربية الليبرالية المعادية للنازية وبدأت الدول الأوربية تشجِّع الصهاينة أكثر من ذي قبل على الهجرة إلى فلسطين وتملُّك أراضيها.
ادّعاء اليهود أن فلسطين لهم:
وبعد دعوى أرض الميعاد واضطهاد السامية خرجت الصهيونية بدعوى أخرى وهي أن أرض فلسطين ليست للفلسطينيين وإنما هي أرض يهودية، وأنها ملك لهم بنصوص التوراة، مع أن المكتشفات الآثارية تثبت غير ذلك.
لقد دأب قادة إسرائيل السياسيون والدينيون على القول بأن أرض فلسطين هي أرض إسرائيل التاريخية أرض آبائهم وأجدادهم، وأن هذه الأرض أرض بلا شعب لشعب بلا أرض، وهي ليست لشعب من الشعوب سواهم، لذا فهم أصحابها الشرعيون، وأن العرب الفلسطينيين أغراب عنها.
وعليه فدولة إسرائيل قامت على مجموعة من الأساطير والادعاءات الدينية والتاريخية منها… تبدأ الاسطورة بالآية رقم (18) من الإصحاح (15) من سفر التكوين والتي نصها ( في ذلك اليوم قطع الرب مع إبرام ميثاقا قائلًا: لنَسْلِكَ أُعطي هذه الارض من نهر مصر الى النهر الكبير نهر الفرات )، بينما أيضًا ورد في سفر التكوين (ظهر الرب – أي لإبراهيم – وقال له: إنّ نسلك سيكون غريباً في أرض ليست لهم) وهذا دليل على ان الادعاء الذي يستندون عليه باطل… وبالرغم من ذلك فقد بدأ قادة الصهيونية يجمعون يهود العالم في هذه الأرض بناءً على تلك الأساطير وأخذوا يزيفون التاريخ ويزعمون أنّ لهم حقًا تاريخيًا في أرض فلسطين… وإن فكرة الحق التاريخي لهم في فلسطين من أهمّ الذرائع التي تقوم عليها الحركة الصهيونية ([12]).
إن المكتشفات الأثرية تثبت أن الأحداث الفاصلة التي يرويها اليهود عن تاريخهم ليس لها أي مؤيد في المكتشفات الأثرية، بل إنها أثر من الوهم أو من التمني أو التطلع الذي استحوذ على أحبار اليهود في المنفى، كما وصفهم الله تعالى بقوله: { يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} [سورة البقرة: آية 78]
لقد أثبت الآثاريون أن اسم القدس القديم هو (يبوس) نسبة لليبوسيين العرب، وهم الكنعانيون الذين نزلوا أرض فلسطين مع منتصف الألف الثالثة قبل الميلاد (3500 ق. م.) أي قبل قرون من ظهور موسى وداود.
وحصن اليبوسيين هو حصن صهيون وتعني بالكنعانية المكان العالي وقد تحقق من ذلك الآثاريون، وفي التوراة إن داوود دعا في عام (1555 ق.م) قومه لاحتلال يبوس، أي إن هذه المدينة كانت عربية منذ عام (2400 ق. م) وحتى (1555 ق.م) عربية كنعانية([13]).
وأما اسم فلسطين فقد جاء من هجرة بعض قبائل جزيرة (قريطش) أو ما يعرف اليوم بجزيرة (كريت) اليونانية المطلة على بحر إيجة، والتي تعرف بقبائل (فلستين) إذ نزلت بين يافا وغزة واختلطت بالشعب الكنعاني الأصلي وبمرور السنين تحدثت لغته وصاروا شعبًا واحدًا يتكلم العربية القديمة ويغلب عليه العنصر الكنعاني، وأما الشهرة والاسم فقد غلبت عليهما القبائل الوافدة وعرفت تلك الأرض فيما بعد بأرض (فلسطين).
وأما أول وجود للعبرانيين في فلسطين بحسب التوراة فقد كان بعد هجرة إبراهيم عليه السلام من بلاد العراق إلى فلسطين قبل الميلاد بحوالي 1800 عاما، وكان هو وأولاده عبارة عن ضيوف مكثوا فيها فترة من الزمن ثم هاجروا منها إلى مصر… وأما قبل هذا التاريخ بمئات السنين فلم يكن في هذه البلاد إلا العرب الكنعانيون.
لقد حاول أنصار اليهودية كثيرًا أن يثبتوا ملكية القدس لليهود عبر البحث عن أي آثار قد تثبت وجودهم فيها بما يتناسب مع الروايات الواردة في التوراة ولكن عبثا ما فعلوا إذ لم توجد أي آثار عمرانية للفترة التي يدعي اليهود أنهم كانوا يسكنون فيها القدس… وأما في غيرها من المدن الفلسطينية فإن كل المكتشفات تدل على الوجود العربي القديم في هذه الأرض، وقد جاءت الجهود البحثية التي أجراها الآثاري البريطاني وارين عام 1876م في هذا السياق، وتبعتها حملة الآثاري الفرنسي تيري عام 1890م، ولكن كلا الحملتين باءتا بالفشل ولم تجدا شيئا يدل على الآثار اليهودية في أرض فلسطين في المواقع التي تذكرها التوراة وبالتاريخ الي تحدده.
وتلت تلك البعثات بعثات أوربية كثيرة وكلها وصلت إلى نفس النتيجة السابقة، مما أدى بإسرائيل إلى إيقاف تلك البعثات وطردها، الأمر الذي أدى إلى ظهور علماء آثار كثيرين أثبتوا بالدليل زيف علم الآثار التوراتي الذي تنطق كل الأدلة بكذبه.
من ذلك قيام الإسرائيليين بإيقاف عمل الآثارية البريطانية كينون عام 1967م، التي كشفت أوهام التوراة إثر إعلان نتائج الحفريات التي قامت بها في مدينة أريحا الفلسطينية عام 1952م.
وقد قام اليهود بالضغط على كثير من الآثاريين الآخرين الذين قدموا تقارير صادقة عن نتائج البحوث الآثارية في فلسطين، فطُرد بعضهم من عمله وتم اغتيال البعض الآخر منهم، ومن أبرز من كشف تزييف اليهود للحقائق الآثاري الأمريكي (بوب لاب) الذي كان رئيسا لبعثة آثارية قرب نابلس، حيث أوضح في تقاريره دور اليهود في الاعتداء على الآثار الفلسطينية وتدمير الشواهد التاريخية على وجودهم القديم فيها، مما أدى لاحقا لطرد إسرائيل من منظمة اليونيسكو، وقد فقد حياته نتيجة لذلك في ظروف غامضة في قبرص.
كما اغتيل من بعده عالم الآثار الأمريكي (ألبرت غلوك) عام 1992 للسبب نفسه، وأما مؤلف كتاب (التوراة في التاريخ.. كيف يخلق الكتاب ماضي)” الآثاري الأميركي (توماس تومسن) فقد طرد من عمله وعمل دهانا بعد أن كشف دور التوراة وأحبارها في صنع تاريخ مزيف لليهود.
بعد وقوف الحقائق التاريخية كلها في وجه الاعتداء الإسرائيلي على القدس وتهويدها لم يبقَ لإسرائيل من حجة في احتلالها القدس وإعلانها عاصمة لها إلا قوة السلاح، وتعزيز الكذب اليهودي بواقع القوة والضعف الذي يفرضونه على أرض فلسطين بدعم قوى الظلم العالمي الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة.
إن قرار نقل السفارة الأمريكية إلى القدس بقرار من الرئيس الأمريكي ترامب لم يكن صدفة إنما هو من ثمار الاتفاقيات الاستراتيجية بين الولايات المتحدة وإسرائيل لخدمة مصالح بعضهم البعض والتي تعززت في اتفاقية 1984م للتحالف الاستراتيجي بينهما.
ما بعد الصبر إلا النصر
إن تداعيات المواقف الدولية والهجمة التي يشكلها مثلث الشر في المنطقة المكون من المثلث المغرور (أمريكا وإيران وإسرائيل) تشير إلى انفراجة بعد المعاناة والضغوط المصنوعة لإجبار الفلسطينيين على التنازل عن الثوابت لتحقيق مصالح إقليمية ودولية، فأمريكا تحلم بالهيمنة وإيران تحلم بالهلال الشيعي وإسرائيل بالقدس.
وإن وقوف الفلسطينيين في وجه المخطط الصهيوني ووقوف الأمة معهم يشكلان الحاجز الذي يمنع الوضع في فلسطين والقدس من الذهاب نحو المزيد من السوء، وعلى الأمة كل بحسب استطاعته أن يقدم الدعم الإعلامي والمالي والسياسي والعسكري اللازم لبقاء قضية فلسطين والقدس على سلم أولويات الوجود المسلم فالعاقبة لنا والنصر لنا بإذن الله.
إن الأمة المسلمة أمة التحديات وإن كَبَت وضعفت، فاجمعوا الصفوف أيها المسلمون وحولوا الحزن استبشارًا والتراجع استدراكًا والإحباط نصرًا وإن النصر مع الصبر، فأرض فلسطين المباركة أرض رباطنا وجهادنا إلى قيام الساعة، رويت بدمائنا وشهدت عدالتنا وحبنا لها قرونًا طويلةً وستشهدها مرةً أخرى بإذن الله.