الدنيا في حياة الأنبياء
حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مليئة بالعبر، وإبراز هذه الجوانب من حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام هو من أهم أغراض ورود قصص الأنبياء في القرآن الكريم، حيث لم تأت لمجرد التسلية والمعرفة التاريخية فقط، وإنما جاءت للاقتداء والتأسي بتوحيدهم الله والدعوة إليه، والتعزي بحياتهم وصبرهم، حتى لا تفتر عزائم المؤمنين ويضعف صبرهم، فلهم في الأنبياء أسوة حسنة في الثبات وشحذ الهمم.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله -: "في قصص هذه الأمور عبرة للمؤمنين بهم، فإنهم لابد أن يبتلوا بما هو أكثر من ذلك ولا ييأسوا إذا ابتلوا بذلك، ويعلموا أنه قد ابتلى به من هو خير منهم، وكانت العاقبة إلى خير، فليتيقن المرتاب، ويتب المذنب، ويقو إيمان المؤمنين، فبها يصح الاتساء(أي الاقتداء) بالأنبياء" (مجموع الفتاوي).
في مواجهة الدنيا
فالأنبياء واجهوا الدنيا وعنفوانها وجبروتها بكل قوة متسلحين باليقين والصبر.
فآدم الذي قضى جزء من حياته في الجنة ظل طوال عمره يشتاق للرجوع إليها، فقد عاين الفرق بنفسه بين الدارين.
وإبراهيم أبو الأنبياء الذي وفى بكل ما أمره به الله، وتحمل مشقة معاداة الأب والأهل وفراقهم في سبيل الله، وقضى حياته متنقلا بين البلاد داعيًا إلى توحيد الله.
وموسى الذي ترك إغراء حياة القصر الفرعوني بكل مباهجها وسلطانها، ووهب كامل عمره لقضية الدين ومقارعة الباطل، وتحدى الطاغوت متسلحًا بالإيمان.
ونوح الذي أمضى مئات ومئات من الأعوام يذكر الناس بالله ويدعوهم لعبادته في جو من الإحباط والتكذيب، ولم يوقفه ذلك عن المضي في طريقه.
وعيسى الذي واجه صلف وعتو بني إسرائيل وتحمل عنادهم في سبيل تبليغ رسالته.
وقد أوصى الله بالاقتداء بهم في القرآن الكريم فقال: (َواصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) [الأحقاف: 35]
لأن حياتهم قدوة في الصبر على مشاق الحياة ومواجهة فتنها.
تخيير الأنبياء
والأنبياء هم أفضل الخلق وأعقلهم ولذلك كانوا أكثر الناس زهدًا في الدنيا ورغبة فيما عند الله، وما من نبي مرض إلا خُيّر بين البقاء في الحياة الدنيا والموت، فاختار مفارقة الدنيا.
روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله ﷺ يقول: ما من نبي يمرض إلا خيّر بين الدنيا والآخرة. وكان في شكواه الذي قبض فيه أخذته بُحّة شديدة فسمعته يقول: مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ [ النساء: 69] ، فعلمت أنه خُيِّر.).
وفي رواية قالت: (كان رسول الله ﷺ وهو صحيح يقول:إنه لم يقبض نبي قط حتى يرى مقعده من الجنة، ثم يُحيّا، أو يُخيّر فلما اشتكى وحضره القبض ـ ورأسه على فخذ عائشة ـ غشي عليه، فلما أفاق شخص بصره نحو سقف البيت، ثم قال: اللهم في الرفيق الأعلى. فقلت: إذاً لا يختارنا، فعرفت أنه حديثه الذي كان يحدّثنا وهو صحيح).
فما من نبي يمرض إلا خيره الله تعالى بين الإقامة في الدنيا والموت؛ لتكون وفادته على الله وفادة محب مخلص مبادر، ولتقاصُر المؤمن عن يقين النبي ﷺ تولى الله الخيرة في لقائه.
و روى البخاري أيضًا عن أبي سعيد الخدري قال: (خطب رسول الله ﷺ الناس وقال:إن الله خير عبداً بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ذلك العبد ما عند الله. قال: فبكى أبو بكر، فعجبنا لبكائه أن يخبر رسول الله عن عبد خُيِّر، فكان رسول الله ﷺ هو المخيَّر، وكان أبو بكر أعلمنا).
وقد ثبت في صحيح البخاري أن ملك الموت عليه السلام جاء إلى موسى عليه السلام فخيره بين الموت والحياة، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ (جاء ملك الموت إلى موسى، فقال له أجب ربك، قال: فلطم موسى عين ملك الموت ففقأها، قال: فرجع الملك إلى الله ﷻ، فقال: إنك أرسلتني إلى عبد لك لا يريد الموت، وقد فقأ عيني، قال: فردّ إليه عينه، قال: ارجع إلى عبدي فقل له: الحياة تريد؟ فإن كنت تريد الحياة فضع يدك على متن ثور فما وارت يدك من شعرةٍ فإنك تعيش بها سنة، قال: ثم مه؟ قال: ثم تموت، قال: فالآن من قريب).
قال المناوي أنه إنما لطمه؛ لأنه جاء لقبض روحه من قبل أن يخيره، لما ثبت أنه لم يقبض نبي حتى يخير، فلهذا لما خيره في المرة الثانية أذعن.
فكل نبي اختار الموت على الحياة في تلك الدنيا لأن الموت هو الذي يحجزه عن لقاء الله.
ومن العبر المستقاة من سير حياة الأنبياء عليهم جميعًا أفضل الصلاة السلام
-النهايات السوداء لأعداء الرسل والخزي في الدنيا والآخرة.
- الحق هو يكسب الجولة الأخيرة دائمًا.
-تعاقب أحوال الناس بين الشدة والرخاء فلا شدة تدوم ولا رخاء يدوم.
-شدة الترف، والظلم يتسببان في هلاك الأمم ودمارها.
-الله يمهل عباده العاصين وينذرهم ويدعوهم للحق قبل إهلاكهم.
-ابتلاء المؤمنين سنة كونية ثابتة.
- الصراع بين الحق والباطل مستمر.
-طريق الحق شاق ويحتاج لصبر وتحمل.
-عدم توقع أن تعطيك الدنيا قدرك الحقيقي، فالأنبياء أنفسهم لقوا التكذيب والتسفيه والأذى.