من التاريخ الإسلام وتاريخ الحروب في الشرق الأوسط
اتصالاً بأطروحة أن منطقة الشرق الأوسط الواسعة هي بؤرة الصراع على المستوى الدولي والتي تمت مناقشتها خلال مقال العدد الماضي، فإن امتداد هذه الأطروحة، بل ولعلها تكون السبب الرئيسي وراء طرحها من الأساس - هو الدفع بأن الإسلام كان السبب الرئيسي وراء فكرة الصراع سواء داخل الدولة أو بين الدول، وأن تاريخ الإسلام منذ نشأته وحتى اليوم هو السبب الرئيسي وراء العنف الأزلي لهذه المنطقة وهو ما أصبح له دوره المباشر حتى في انتخابات الدول الكبرى والتي يدفع بعض مرشحيها بأن الإسلام والمسلمين بداخلهم جينات العنف على كل المستويات، وهي أطروحة نتصدى لها في هذه المقالة من خلال الحقائق التاريخية والفكرية بعيدًا عن لب العقيدة الإسلامية السمحة والتي لها مجالاتها الأخرى، ولكن من خلال التاريخ وعلم العلاقات الدولية، وفي هذا الصدد فإنني أطرح ما يلي:
أولاً: إن الدين شأنه شأن الآيديولوجيا والتي تتمثل في مجموعة من الأفكار لعمل سياسي أو اجتماعي وعقائدي من أجل الإبقاء على الواقع أو تغييره، وكل آيديولوجيا تقدم فهمًا للنظام السياسي القائم ونموذجًا للمستقبل بالإضافة إلى سبل تنفيذ التغيير المنشود، ولكن السياسة الخارجية للدول لا تبنى على المفاهيم الآيديولوجية المجردة بقدر ما تبنى على مفهوم «المصلحة القومية»، فكما وصفها أحد علماء العلاقات الدولية «فالحرب تُشن من خلال قرار يقيني باللجوء للعنف من أجل تحقيق هدف سياسي عقلاني»، فالدين لم يكن على مدار التاريخ عاملا أوليا ومطلقا ووحيدا في شن الحروب، فهو على أفضل الظنون عامل ثانوي غالبًا ما يندرج تحت تبرير للحرب أكثر من كونه سببًا مباشرًا لها.
ثانيًا: تقديري أن هناك حاجة شديدة لفض اشتباك فكري وتحليلي بل وتاريخي حول التاريخ السياسي للدول الإسلامية المتتالية منذ فجر الإسلام وحتى اليوم، فكثير من الآراء تذهب إلى أن الدين الإسلامي وحده كان وراء حركة الفتوحات وتوحيد الدولة الإسلامية، خاصة بعد وفاة المصطفى عليه الصلاة والسلام، وأن كثيرًا من العنف قد استخدم من أجل بناء هذه الدولة وإقامتها، وهي فرية تاريخية تحتاج لمراجعة حقيقية، فالدول لم تكن تُبنى من خلال التوحد السياسي والفكري المجرد على مر التاريخ، فما من دولة بنيت إلا وكان العنف أحد وسائلها، والدولة الإسلامية لا تخرج عن هذا النطاق، فحتى دولة سويسرا بنيت تحت وابل من العنف والعنف الديني بالأخص على مدار قرون ممتدة، وكل نماذج الدول مبنية على هذا الأساس باستثناءات محدودة للغاية ترتبط في الأساس بظروف البيئة الدولية اليوم.
ثالثًا: إن توسع الدول غير مرتبط بالدين على مر التاريخ، فالتوسع سنة سياسية، فما من دولة تكونت إلا وكان التوسع أو محاولة التوسع هي الخطوة التالية، والدولة الإسلامية لم تشذ عن هذه القاعدة، فحتى لو كانت تمتلك آيديولوجيا فكرية أو دينية فهي تمشي على سنة السياسة، والدولة الإسلامية في عهد الخلافة الراشدة أو الأموية أو العباسية لم تخرج عن هذا النطاق، فناموس السياسة واضح لا خلاف حوله، ومن المجحف حقيقيةً أن تسعى الآراء لمحاولة وضع الإسلام كنموذج لغير ذلك، بل إن الثابت تاريخيًا أن توسع الدولة الإسلامية على حساب الدول الأخرى خاصة بيزنطة لم يصحبه عمليات تحويل جبري من الديانة المسيحية للإسلام، وهو ما يعكس نماذج التسامح، بل إن الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه رفض الصلاة في الكنيسة حتى لا يتخذها المسلمون من بعده جامعًا، بالتالي فإن محاولة وصف حركة العنف أو الحرب في الدولة الإسلامية بأنها ميل طبيعي للعنف لدى الدين الإسلامي إنما يتعارض بشكل واضح وصريح مع سلوك الدول منذ نشأتها ومراحل تطورها. وقد وصف أحد علماء العلاقات الدولية الدولة بمقولة حكيمة للغاية مؤداها «... إن الحرب تصنع الدولة والدولة تصنع الحرب».
ثالثًا: إن تاريخ منطقة الشرق الأوسط، بشقيها الأوروبي (الشمالي) والجنوبي من المحيط إلى ما بعد الخليج، يعكس حقيقة أساسية وهي أن الآيديولوجيا كانت عنصرًا هامًا في تحريك تاريخه، سواء على مستوى الدويلة أو الدولة أو الدولة الكبرى، ولا خلاف على ذلك، فاليونانيون ومن بعدهم الرومان ثم الدولة البيزنطية كانت ترى في أسلوب إدارتها للدولة وعقيدتها الراسخة (سواء الدينية أو السياسية أو الثقافية) أنها أفضل ما تقدمه للدول والمجتمعات التي تم استيعابها، وهذا أمر طبيعي لا خلاف عليه، فالإسكندر المقدوني كان من أهدافه ما يمكن أن نسميه «أغرقة العالم» أي جعله إغريقيًا، وقد فشل الشاب الطموح أيما فشل وتفتتت أحلامه من قبل تفتت إمبراطوريته بعد مماته، ونفس الشيء حدث مع الإمبراطورية البيزنطية. وبالتالي فإن كون الإسلام الجزء الأساسي من عقيدة الدولة الإسلامية ليس معناه أن الدولة الإسلامية كانت مبنية على العنف والصراع مع الدول الأخرى، ولكنها صارت على نفس نهج الدول التي كانت قبلها والدول التي أتت بعدها.
رابعًا: إن تتبع تاريخ الدول الإسلامية يعكس بوضوح أنها لم تخرج عن ناموس العلاقات الدولية التقليدية في زمانها، فكما وصفها العلامة ابن خلدون فإنها مرت بالسنن التاريخية لزمانها من حيث التكوين ثم التثبيت ثم مرحلة النمو ثم مرحلة الشيخوخة الطبيعية، ولم نر فيها أية خواص تدفعنا للاعتقاد بأنها كانت تحمل في طياتها عنفًا فائضًا يخصها دون غيرها، خاصة إذا ما تمت مقارنتها بالدول الأخرى قبلها وبعدها، بل إن كثيرًا من العنف الناتج عن الحركة التاريخية الطبيعية كان نتاجًا لخلافات أساسية حول مفهوم الشرعية بهذه الدول والذي كان سببًا أساسيًا في تغيير الأنظمة السياسية لدول إسلامية كثيرة لا سيما من الخلافة الراشدة إلى الأموية ثم من الأخيرة إلى الخلافة العباسية، بل إن أغلبية العنف المتولد عن هذا التغيير كان داخليًا يخص هذه الدول ولم يكن موجهًا للخارج كما يسعى البعض إلى التلميح أو الجهر به. ومرة أخرى لا أجد غضاضة في التأكيد على أن حروب هذه الدول خارجيًا كان أمرًا طبيعيًا مرجعه سنة العلاقات الدولية وليس ارتباطًا بعقيدة عنف داخلية في الدولة.
خامسًا: إن العالم الإسلامي في كثير من أقطاره ظل يترنح في أغلبيته تحت وطأة حركات العنف المتولد عن مفهوم الاستعمار وما شابه ذلك مدة لا بأس بها، وبالفعل كان الدين في بعض الأقطار العربية أساسًا للحفاظ على الهوية والكيان الفكري لهذه الدول مثل الجزائر وليبيا وغيرها في ظل الاستعمار، خاصة الاستعمار الفرنسي الذي سعى لطمس الهوية من خلال عملية «فرنسة» ممنهجة لبعض مستعمراته، ولم تكن حركات المقاومة التي احتضنت الإسلام كرمز للهوية هدفها العنف، بل كان الهدف منها هو الإبقاء على الدولة والهوية في مواجهة العدو الخارجي، ولا غضاضة في ذلك، بالتالي لم يكن الإسلام هو محرك العنف ولكنه كان رداءً شرعيًا بل وطبيعيًا للتحرر الوطني لدى كثير من الدول.
إن كل هذه النقاط الأساسية تدفعني لأن أؤكد بكل حزم على أن الإسلام إذا ما جاز لنا وضعه تحت اسم الآيديولوجيا باعتباره مصدرًا هامًا للشرعية والتفاعل في الدول التي اعتنقته منذ فجر التاريخ الإسلامي وحتى اليوم لم يكن هدفه الصراع، فهذا خطأ منهجي وتاريخي، فالصراعات الدولية تحكمها على مر التاريخ حركة خاصة بها ولم يكن للآيديولوجيا دور حاسم في أغلبها بل ظل هذا عاملاً ثانويًا على أفضل تقدير، وهو ما سيتضح جليًا خلال تناولنا لدور الآيديولوجيا في الحروب الدولية في الأسبوع المقبل.