في أواخر العام (2016م)، احتفل محرك البحث «غوغل» بالذكرى (1113م) لميلاد عالم الفلك (عبدالرحمن الصوفي)، أحد أشهر الفلكيين العرب والمسلمين، ومن أوائل العلماء الذين قالوا بكروية الأرض، ورصدوا حركة النجوم بدقة غير مسبوقة، بعدما أنكر الغربيون ما قاله (إراتوستينس) بكروية الأرض.
هو أبو الحسين؛ عبدالرحمن بن عمر بن محمد بن سهل الصوفي (ت:376هـ-986م).. وبلغ من شهرته بحدة ذكائه ودقة مراقبته النجوم، أنْ ضمه الخليفة عضد الدولة البويهي إلى مجلسه، ليستشيره في كثير من الأمور، ويفخر به أستاذاً له في الكواكب الثابتة؛ فشيّد له مرصداً خاصاً في حدائق قصره في شيراز، انقطع إليه عبدالرحمن، وحقق كشوفاتٍ لم يسبقه إليها أحد.جورج سارتون
اطلع (الصوفي) على ما كان لدى عرب الجاهلية، من العلم بالسماء والأنواء ومهاب الرياح، إلى جانب تفصيل الأزمنة وسوى ذلك، وقد أقر بأنه استمد تلك المعلومات من كتاب (الأنواء) لأبي حنيفة الدينوري.. ثم استند في كتابه (صور الكواكب الثابتة) على كتاب (المجسطي) لبطليموس، ولما لم يقتنع بمتابعته، رصد النجوم جميعاً بنفسه نجماً نجماً، وعيّن أماكنها وأقدارها بدقة فائقة تثير الإعجاب، مصححاً إياها منسوبةً إلى مبادرة الاعتدالين.
وكما فعل غيره من علماء العرب والمسلمين آنذاك، فقد اتبع (الصوفي) في أرصاده منهجاً علمياً دقيقاً، يقوم على المشاهدة والمعاينة المباشرة والمتابعة اليومية، وأيضاً التسجيل المتواصل لكل ما يشاهده من أجرام سماوية، ونشرها في كتابه سابق الذكر العام (964م)، مدعمةً بكثير من الرسوم التوضيحية للبروج والصور السماوية، منفردةً وفي مجموعات، ومثّلها كما يشاهد هيئتها عن سطح الأرض: إنساناً أو حيواناً أو شيئاً آخر؛
مثل صور ذات الكرسي والإكليل والميزان، وأدرج فيه أكثر من ألف نجم، ووشّاه بالخرائط والصور الملونة، وذكر أسماءها العربية التي لايزال بعضها مستعملاً حتى الوقت الحاضر، مثل: الدب الأكبر، والدب الأصغر، والحوت، والعقرب؛زيغريد هونكه
مؤسساً بهذا الأسلوب معرفة تتيح له نقد أية نظرية سابقة، حتى ولو كانت نظرية له، إذا ما تعارضت مع مشاهداته.
لقد أولى هذا الفلكي البارع، أقصى اهتمام لرصد النجوم بدقة بالغة؛ فرصد الكواكب المعروفة في ذلك الحين في فصول السنة الأربعة، وعيّن المواقع النسبية لآلاف النجوم الثابتة، وقدّر أحجامها نسبة لبعضها بعضاً، ما أتاح له رسم خريطة للسماء عين فيها مواقع النجوم الثابتة.. كذلك كان (الصوفي) أول فلكي يرصد ويلاحظ تغير ألوان الكواكب وأقدارها لتعيين سطوعها؛ مقدّراً درجة إشعاع كل منها، وهذه التقديرات اعتمدها الفلكيون المحدثون، لحساب التغير في ضوء بعض النجوم..
وأيضاً كان أول من يَرسم الحركة الصحيحة تماماً للكواكب؛ ومن هذا كله ظهر إلى الوجود فهرس دقيق للنجوم، وصلَنا عبر جدوله الفلكي المعروف باسم (زيج الصوفي)، والذي يعد من أدق الجداول، التي ورد ذكرها في كتب القدماء، وانتشر بين عامة المسلمين آنذاك، وقد صحح فيه كثيراً من الأخطاء السابقة، إذ كان يعتقد آنذاك أن عدد تلك النجوم الثوابت يبلغ نحو (1025) نجماً،ألدو ميلي
لكن الصوفي توصل إلى أن عدد النجوم الظاهرة أكثر من ذلك، والنجوم الخفية أكثر من أن تُحصى..
كذلك عللّ الصوفي، بناء على تلك الأرصاد، استخدام منجمي العرب لمنازل القمر باعتمادهم على الشهر القمري.
وقد بيّن الصوفي أن (بطليموس) وأسلافه راقبوا حركة دائرة البروج، فوجدوها تتغير درجة كل (100) سنة، أما هو فتوصل في أثناء مراقبته تلك الحركة، ومعها دراسته حركة (الاعتدالين)، إلى أنها تتحرك درجة واحدة كل (66) سنة، معارضاً بطليموس، ولتثبت أرصاد اليوم تغيّرها درجة كل (71) سنة ونصف السنة. كذلك كان (الصوفي) أول من اكتشف وجود (السديم) في السماء؛ مشيراً إلى سديم المرأة المسلسلة، قبل أن يذكره أحد في أوروبا، حتى ذكره سمعان ماريوس العام (1612م)، أي بعد أكثر من سبعة قرون! وأول من لاحظ وجود مجرة (أندروميدا)، ووصفها بـ»لطخة سحابية»، كذلك لاحظ وجود سحابتي ماجلان الكبرى والصغرى.
ترجمت كتب للصوفي تحت اسم شهرته (أزّوفي)، وكانت موضع اهتمام علماء أوروبا والمشتغلين بعلم الفلك أيام نهوضها، وناقشوا ما جاء فيها من أفكار، وعقدوا مقارنات بينها وبين آراء بطلَيموس في القرن الثاني الميلادي، التي أوردها في كتابه الأشهر (المجسطي)...الدينوري
وقد اعترف الأوروبيون بدقة ملاحظاته الفلكية، حيث يصفه ألدو مييلي بأنه (من أعظم الفلكيين العرب، الذين ندين لهم بسلسلة دقيقة
من الملاحظات المباشرة، ولم يقتصر هذا الفلكي العظيم على تعيين كثير من الكواكب التي لا توجد عند (بطليموس)، بل صحح
أيضاً كثيراً من الملاحظات، التي أخطأ فيها، ومكن بذلك الفلكيين المحدثين من التعرف إلى الكواكب، التي حدد لها الفلكي اليوناني
مراكز غير دقيقة).
أما المؤرخ الرصين سارتون، فيعد الصوفي واحداً من أعظم علماء الفلك بعمق أرصاده وذكائه الفريد، خصوصاً وقد صحح كثيراً
من معلومات بطلَيموس، وعدّ كتابه (صور النجوم الثابتة) أحد الكتب الرئيسة الثلاثة، التي اشتهرت في علم الفلك عند المسلمين،بعض رسومه
أحدها لابن يونس، والآخر لألغ بك.
وعلاوة على مؤلفاته الفلكية المشهورة، فله عناوين لافتة للانتباه في حقول علمية أخرى، منها: «مطارح الشعاعات»، و»العمل بالكرة الفلكية»، و»رسالة في عمل أشكال مستويات الأضلع»...
فقد كتب الصوفي عن الأسطرلاب، حيث وجد العديد من الاستخدامات الإضافية له، ووصف أكثر من (1000) استخدام مختلف له في مجالات متنوعة؛ مثل علم الفلك،
والملاحة، ومسح الأراضي، وضبط الوقت، والقبلة، والصلاة.. وغير ذلك.
وقد امتدح مترجم كتابه (صور الكواكب الثمانية والأربعين)، الدانماركي شيليرب، دقته اللامتناهية في مراجعة توصيفات
النجوم، التي وردت في جداول بطليموس بقوله: (قد أعطانا (الصوفي) وصفاً عن السماء المرصعة بالنجوم، بصورة أحسنبعض رسومه مما توافر من قبل، وقد دام هذا الوصف لتسعة قرون دون أن يوجد له نظير). ولكل هذا فلا تخلو مكتبة
من مكتبات الغرب، كمكتبة (الإسكوريال) في إسبانيا، والمكتبة الوطنية في باريس، ومكتبة (لايدن) بهولندا، ومكتبة (بودلين) في أكسفورد، والمتحف البريطاني، من نسخة من
مؤلفات أبي الحسين الصوفي في الفلك، علاوة على النسخ المتوافرة في المكتبات العلمية، في البلاد العربية والإسلامية.
تقول عنه زيغريد هونكه في كتابها (شمس العرب تسطع على الغرب): (لم يجرؤ أحد على تصحيح ما أورده (أبرخس) العظيم، إلا (عبدالرحمن الصوفي)؛ إذ قام بتكليف من
السلطان عضد الدولة الذي بنى له مرصداً فلكياً في حدائق قصره، برصد النجوم وعدها ليلة بعد ليلة، وحسب أبعادها أيضاً،
عرضاً وطولاً في السماء، فكان أن اكتشف نجوماً
ثابتة عدة، لم يلحظها بصر أبرخس قبله، ثم رسم خريطة للسماء بدقة كبيرة، حسب فيها مواضع النجوم الثابتة وأحجامها من
جديد، مقدراً- ما وسعه الأمر- درجة إشعاع كل منها..بعض كتبه
وهكذا أخرج إلى الوجود فهرساً للنجوم، يصحح كثيراً من الأخطاء الموروثة، منذ أيام (أبرخس) و(بطليموس)..).
وتكريماً لقامته العلمية العالية تاريخياً، فقد سميت على اسمه فوهة (أزّوفي) القمرية، وكويكب (أزّوفي 12621)، الذي اكتشفه فلكيون في مرصد (بالومار) في كاليفورنيا