يحكى أنّ تاجرا كان له ولد وبنت إسمها وجدان ، توفّيت أمّهما ،فربّاهما أبوهما ،أحسن تربية. في يوم من الأيام أراد الرجل أن يحج،ّ فأمر إبنته بقفل الباب ،وجعل على نافذة عالية سلّما وأعطى المؤذّن صرّة دنانير وأوصاه بأن يحمل إليها كلّ مرّة ما تستحقّه من خضار ولحم لتطبخ ،ووعده بمكافئة سخيّة حين يعود من الحجّ ، فأجابه المؤذّن: لا تقلق فهي مثل إبنتي!!! ثم غادر التاجر مع مع ابنه. إلى الحجاز ،وهو مطمئنّ، فالمؤذّن مشهور بالتّقوى، لكن إبنة التاجر كانت جميلة ،وحلوة المنطق ،فوقع المؤذّن في غرامها ،وصار يتردّد عليها كل يوم ،وصارحها بحبّه ،لكن الفتاة لم تهتمّ به ، وهدّدته أن تشكوه لأبيها، وأدّى ذلك لحنقه ،وقال لها سأتركك تجوعين ،فأنا أتعب من أجلك ،وآتيك بأفضل ما في السّوق ،أتعتقدين أن ما أعطاه أبوك يكفي لكلّ هذه الخيرات ؟ أجابته :لا تشغل نفسك بعد الآن بأمري ،واطلب من جارتنا أن تصعد السّلم وتعطيني القفة ،أما أنت فلا أريد أن أرى وجهك ،أجابها : سأدّبر لك مكيدة ،وسيطردك أبوك ،وربّما قتلك ،سترين كيف أنتقم منك!!! أجابته إفعل ما تريد ،فلن يصدّقك أحد.
بعد مدّة سمع المؤذّن أنّ التّاجر وإبنه قد رجعا من الحجّ ،وأنّهما قاربا على الوصول إلى القرية ،فبعث برسالة له يقول فيها : إنّ ابنتك تستهين بك ،وهي وتراودني عن نفسها ،لكنّي كلّ مرّة أستغفر الله ،وصرت أرسل لها جارتكم بجميع ما يلزمها،وكل شخص في القرية يعرف ذلك ، لهذا لا ترجع إلا إذا أبعدتها من هنا !!! فلمّا قرأ التّاجر الرّسالة إشتدّ غضبه ،ولم يحاول أن يسأل ،فهو يثق في كلام المؤذّن ذلك الرّجل الصّالح ،فأرسل إبنه ،وطلب منه أن يحتال على أخته ويقودها إلى الصّحراء، ثمّ يقتلها ،ويأتيه بلسانها الذي ينطق بالسّوء ،فذهب إليها أخوها، ولمّا سمعت صوته فرحت ،وفتحت له الباب ،وقال لها :تعالي لنرى أبانا، فهو ينتظرنا على جمله .
وفي الطريق سألها : هل صحيح أنّ جارتك هي من تصعد السّلم لتعطيك حاجياتك؟ أجابته؛ نعم ،لأن المؤذّن الذي وثق فيه أبي طمع فيّ لمّا رآني بمفردي، تبّا له من شخص لئيم ،ولقد هدد بتجويعي، والنيل من سمعتي إن لم أستجب له ،لكن تلك الجارة عطفت عليّ ،وصارت تعطيني من عندها لمّا رأت أن ما في القفّة لا يكفي . حين وصلوا إلى الصّحراء سألت البنت عن أبيها ،فأخبرها أخوها بالحقيقة ،وأنّه جاء هنا ليقتلها ،فقالت له :هذه رقبتي فاقطعها إن كان ذلك يريحك !!! فبكى، وقال: إنّي أصدّقك ، فلقد أحسن أبانا تربيتنا ،وأمّنا رحمها الله ذات علم وفضل ، وما أكثر من يخفي وراء الدين جشعه ولؤمه .ثمّ شاهد غزالا فرماه بسهم وسلخه وقطع لسانه ،ثم طلب من أخته أن تتوارى وتخلع ثوبها ،ثم رمى إليها بالجلد فالتفت به فأخذ الثوب ولطخه بالدم و قال هاك قربة ماء وسيكفيك اللحم بضعة أيام فتدبري حالك ،فإني لا أقدر على عصيان أمر أبي ،والله سيحميك ،ويجد لك مخرجا فيما أنت فيه من كرب ،ثم ودعها وانصرف ،
وعندما لاقى أباه أراه الثوب واللسان ،وقال له لقد نفذت أمرك ومحوت عارك ،والآن عد إلى بيتك قرير العين ،ومرفوع الرأس والله لو سمعت أحدا يذكر أختي لضربت عنقه .أمّا الفتاة فجففت اللحم ثم وضعته في صرة ،ومشت في البوادي والقفار ،حتى نفذ زادها وأحسّت بالجوع والعطش ،فسقطت على الأرض وقد أيقنت بالهلاك ،ولم تعلم كم من الوقت بقيت نائمة ،وفجأة أحسّت بشيئ رطب على وجهها ،ولما فتحت عينيها رأت غزالة صغيرة تلعق وجهها ،و قطيع من الغزلان يمرّ أمامها فتحاملت على نفسها واتبعته حتى وصلت إلى أرض فيها ماء وكلأ ،فشرت واستحمت، ثم جعت العشب الطري وأكلته من شدة الجوع وكان الغزلان تعتقد أنّها واحدة منهنّ ،فلم يخفن منها ،وأحست البنت بالأمان معهم فلقد كانوا يحبوّنها ،فقالت في نفسها الحيوانات لا تعرف الجشع لذلك لا تظلم ،وما دخل حب الدنيا على قوم إلا أفسد ما بأنفسهم ،فمرحى للغزلان ،وبؤسا لبني آدم ....