أخرج البخاري ومسلم عن عبدالله بن أبي أوفى رضي الله عنه قال: "كُنَّا مع رَسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في سَفَرٍ وهو صَائِمٌ، فَلَمَّا غَرَبَتِ الشَّمْسُ قَالَ لِبَعْضِ القَوْمِ: يا فُلَانُ، قُمْ فَاجْدَحْ لَنَا، فَقَالَ: يا رَسولَ اللَّهِ، لو أمْسَيْتَ، قَالَ: انْزِلْ فَاجْدَحْ لَنَا، قَالَ: يا رَسولَ اللَّهِ، فلوْ أمْسَيْتَ، قَالَ: انْزِلْ فَاجْدَحْ لَنَا، قَالَ: إنَّ عَلَيْكَ نَهَارًا، قَالَ: انْزِلْ فَاجْدَحْ لَنَا، فَنَزَلَ فَجَدَحَ لهمْ، فَشَرِبَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ قَالَ: إذَا رَأَيْتُمُ اللَّيْلَ قدْ أقْبَلَ مِن هَاهُنَا، فقَدْ أفْطَرَ الصَّائِمُ".
• وفي رواية عند الإمام مسلم: "كُنَّا مع رَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم في سَفَرٍ، فَلَمَّا غَابَتِ الشَّمْسُ قالَ لِرَجُلٍ:" انْزِلْ فَاجْدَحْ لَنَا"، فَقالَ: يا رَسولَ اللهِ، لو أَمْسَيْتَ، قالَ:" انْزِلْ فَاجْدَحْ لَنَا"، قالَ: إنَّ عَلَيْنَا نَهَارًا، فَنَزَلَ فَجَدَحَ له فَشَرِبَ، ثُمَّ قالَ:" إذَا رَأَيْتُمُ اللَّيْلَ قدْ أَقْبَلَ مِن هَا هُنَا، وَأَشَارَ بيَدِهِ نَحْوَ المَشْرِقِ، فقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ".
مِنَ المَعلومِ أنَّ الخَيرَ كُلَّ الخَيرِ في اتِّباعِ هَدْيِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، ولَمَّا كان الصِّيامُ مِن أجلِّ العِباداتِ وأعظَمِ القُرُباتِ، كان لِزامًا على المُسلِمِ أنْ يَلتزِمَ هَدْيَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فيه الَّذي حثَّ على تَعجيلِ الفِطرِ، وفي الحديثِ السابق يَروِي عَبدُ الله بنُ أبِي أَوفَى رضي الله عنه أنَّهم كانوا مع النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في سَفَرٍ، وكان صائِمًا، فلمَّا غَرَبَتِ الشَّمسُ أمَرَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم رجُلًا أنْ يَجدَحَ لهم - بأنْ يَخلِطَ الشَّعيرَ المَدقوقَ أو الدَّقيقَ باللَّبَنِ أو الماءِ ويقلبه في القدر بعود ونحوه - وذلك لِيُفْطِروا عليه، فظَنَّ الرجلُ أنَّ وَقْتَ الإفطارِ لم يَجِئْ بعدُ، فقال للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: يا رسولَ اللهِ، لو أخَّرْتَ الإفطارَ قَليلًا؛ للتَّأكُّدِ مِن دُخولِ وقْتِ الغُروبِ، فكرَّرَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أمْرَه وقال له: "قُمْ فاجْدَحْ لنا"، وكرَّرَ الرجُلُ إجابتَه، وفي المرَّةِ الثَّالثةِ قال له الرجُلُ: "إنَّ عليك نَهارًا"، أي فلم نَزَلْ في وقْتِ النَّهارِ ولم تَغرُبِ الشَّمسُ؛ لِتوهُّمِه أنَّ ذلك الضَّوْءَ الَّذي يَراهُ مِن النَّهارِ الَّذي يَجِبُ صَومُه، وفي المرَّةِ الرابعةِ فَعَل الرَّجلُ ما أمَرَه به النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، فشَرِب النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ أخبَرَهم وعلَّمَهم أنَّه إذا غَرَبَتِ الشَّمسُ ودَخَل اللَّيلُ مِن جِهةِ المَشرِقِ - وذلك آخِرُ النَّهارِ وأوَّلُ أوقاتِ اللَّيلِ - فقدْ حلَّ وقْتُ الفِطر للصائمِ. وبهذا يكونُ تَعجيلُ الفِطرِ عندَ تَحقُّقِ غُروبِ الشَّمسِ مُباشرةً؛ لئلَّا يُزادَ في النَّهارِ مِن اللَّيلِ، ولأنَّه أرفَقُ بالصَّائمِ، وأقوى في قَبولِ الرُّخصةِ، وشُكرِ النِّعمةِ. (انظر فتح الباري:٤/ ١٩٩).
وأخرج الطبراني في الأوسط من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "كان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم لا يُصلِّي المغرِبَ وهو صائمٌ حتَّى يُفطِرَ ولو على شَربةِ ماءٍ"؛ (صحيح الجامع: 4858).
وأخرجه البزار وأبو يعلي بلفظ: "ما رأيتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَطُّ صلَّى صَلاةَ المغرِبِ حتَّى يُفطِرَ، ولَو علَى شَربةٍ مِن ماءٍ"؛ (صحيح الترغيب والترهيب: 1076).
وتعجيل الفطر وتأخير السحور من أخلاق النبوة، كما مر بنا في الحديث الذي أخرجه الطبراني في "الكبير" عن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاثٌ من أخلاقِ النُّبوةِ: تَعجيلُ الإفطارِ، وتأخيرُ السُّحورَ، ووضْعُ اليمينِ على الشِّمالِ في الصلاةِ"؛ (صحيح الجامع: 3038).
• وأخرج الطبراني أيضًا في الكبير من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنا - معشر الأنبياء - أُمرنا أن نعجل إفطارنا، ونؤخر سحورنا، ونضع أيماننا على شمائلنا في الصلاة"، وفي رواية: "وأن نضرب بأيماننا على شمائلنا"؛ (صحيح الجامع:2286).
قال المناوي - رحمه الله - في "فيض القدير: 6/ 450": "تعجيله بعد تيقن الغروب من سنن المرسلين، فمن حافظ عليه تخلق بأخلاقهم، ولأن فيه مخالفة أهل الكتاب في تأخيرهم إلى اشتباك النجوم، وفي ملتنا هذا شعار أهل البدع، فمن خالفهم واتبع السنة لم يزل بخير، فإن أخر غير معتقد وجوب التأخير ولا ندبه، فلا خير فيه كما قال الطيبي - رحمه الله -: إن متابعة الرسول هو الطريق المستقيم، ومن تعوج عنها فقد ارتكب المعوج من الضلال، ولو في العبادة".
وقال الإمام الشافعي - رحمه الله -: "وأحب تعجيل الفطر وتأخير السحور اتباعًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم"؛ (مختصر المزني، ٨/ ١٥٣).
والناس على السنة طالما أنهم يعجلون الفطر:
فقد أخرج ابن حبان من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تزال أمتي على سنتي، ما لم تنتظر بفطرها النجوم"؛ (صحيح الترغيب والترهيب:1074)، وهذه الخيرية تصيب الأمة بأسرها لبركة اتباع السنة، وينال مُحيي هذه السنة مخالفةً لأهل الكتاب من هذه الخيرية النصيب الوافر، والناس بخير ما عجلوا الفطر، فقد أخرج الإمام أحمد من حديث أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَا تَزَالُ أُمَّتِي بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الْإِفْطَارَ"؛ (صحيح الجامع:728).
قال القسطلاني - رحمه الله -: "تعجيل الفطر وتأخير السحور من خصائص هذه الأمة"، وأخرج البخاري ومسلم من حديث سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لَا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الْفِطْرَ"، زاد الإمام أحمد: "وَأَخَّرُوا السُّحُورَ".
قال النووي - رحمه الله - في "شرحه على مسلم: 7/ 208: "فيه الحث على تعجيل الفطر بعد تحقق غروب الشمس، ومعناه لا يزال أمر الأمة منتظمًا، وهم بخير ما داموا محافظين على هذه السنة، وإذا أخروه (أي: الفطر)، كان ذلك علامة على فساد يقعون فيه"؛ اهــ، وأَخْرَج الطَّبَرَانِيُّ عَنْ أم حكيم - رضي الله عنها - قَالَت: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "عجلوا الإفطار وأخِّروا السُّحُورِ"؛ (صحيح الجامع:3989) (الصحيحة:1113)، وأخرج أبو داود والنسائي عَنْ أَبِي عَطِيَّةَ الوادِعيّ قَالَ: دَخَلْتُ أَنَا وَمَسْرُوقٌ عَلَى عَائِشَةَ -رضي الله عنها- فَقُلْنَا: "يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، رَجُلَانِ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، أَحَدُهُمَا: يُعَجِّلُ الْإِفْطَارَ وَيُعَجِّلُ الصَّلَاةَ، وَالْآخَرُ: يُؤَخِّرُ الْإِفْطَارَ وَيُؤَخِّرُ الصَّلَاةَ"، قَالَتْ: "أَيُّهُمَا الَّذِي يُعَجِّلُ الْإِفْطَارَ وَيُعَجِّلُ الصَّلَاةَ؟"، قَالَ: قُلْنَا: عَبْدُ اللهِ، يَعْنِي: ابْنَ مَسْعُودٍ، قَالَتْ: "كَذَلِكَ كَانَ يَصْنَعُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم"، زَادَ أَبُو كُرَيْبٍ: وَالْآخَرُ أَبُو مُوسَى رضي الله عنه"؛ (صحيح أبي داود: 2354) (صحيح النسائي: 2158).
فالخَيرُ كُلُّ الخَيرِ في اتِّباعِ هَدْيِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، والشَّرُّ كلُّ الشرِّ يَأْتي مِنَ الِابْتداعِ في الدِّينِ، ولَمَّا كان الصِّيامُ مِن أجَلِّ العِباداتِ وأعظَمِ القُرُباتِ، كان لِزامًا على المُسلِم ِأنْ يَلتزِمَ هَدْيَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فيه، وفي هذا الحَديثِ يُخبِرُ التَّابِعيُّ أبو عَطِيَّةَ الوادِعيُّ أنَّه دخَلَ هو ومَسرُوقُ بنُ الأجدَعِ بنِ مالكٍ على أُمِّ المؤمِنينَ عَائِشةَ رَضيَ اللهُ عنها، وكان لا يدخُلُ أحدٌ عليها إلَّا بعدَ اسْتِئذانٍ، فسأَلَها مَسرُوقٌ عن رَجُلَينِ مِن أصْحابِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، كانَ الأوَّلُ إذا كان صائمًا يُعجِّلُ صَلاتَه للمغرِبِ، ويُعجِّلُ بإفْطارِه، فيُفطِرُ عندَ تحقُّقِ الغُروبِ، والآخَرُ إذا كان صائمًا يُؤخِّرُ المغربَ والإِفطارَ، والمرادُ بالتَّأخيرِ عدمُ المبالَغةِ في التَّعْجيلِ، فسأَلَتْ: مَن يُعجِّلُ الإفْطارَ وصلاةَ المغربِ؟ وسأَلَتْ عنه دُونَ الثَّاني؛ لأنَّه أتَى بما يُثْنى عليه به، فأَحَبَّتْ مَعرِفَتَه؛ لِتُثْنِيَ عليه بذلك، فأخْبَراها أنَّه عبدُاللهِ بنُ مَسعُودٍ، فقالتْ: "هكذا كان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَصنَعُ"؛ أي: كان يُعجِّلُ المغربَ والإفْطارَ كفِعلِ عبدِاللهِ بنِ مَسعودٍ رضي الله عنه، وقد ذُكِرَ أنَّ الآخَرَ الَّذي يؤخِّرُ الإفْطارَ ويؤخِّرُ الصَّلاةَ هو أبو موسى الأشْعَريُّ رضي الله عنه، فيُحمَلُ عَملُ ابنِ مَسعودٍ على السُّنَّةِ، وعَملُ أبي موسى على بيانِ الجَوازِ.
قال عمرو بن ميمون الأودي - رحمه الله -: "كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أسرع الناس فطرًا، وأبطأهم سحورًا"؛ (أخرجه عبد الرزاق في مصنفه).
وأخرج ابن عدي في الكامل من حديث أنس رضي الله عنه قال: "بكِّروا بالإفطار، وأخِّروا السحور"؛ (صحيح الجامع:2835).
قال الألباني - رحمه الله - في حاشية صحيح الجامع: وهو في حكم المرفوع، ولا سيما وله شاهد مرفوع من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وهو مخرج في صفة الصلاة"؛ اهـ.
قال ابن عبد البر - رحمه الله -: "أخبار تعجيل الفطر وتأخير السحور متواترة".
تنبيه: بعض الناس يظنون أنه لا يجوز لهم الإفطار إلا بعد أن يتشهَّد المؤذن، أو بعد الانتهاء من الأذان، وهذا اعتقاد باطل؛ حيث إنه يجوز للصائم أن يشرب أو يأكل عند سماع الأذان مباشرة، لكن يُسْتَحبُّ له ترديد الأذان للفوز بالأجر والثواب.
وتعجيل الفطر يكون لمخالفة أهل الكتاب، فقد أخرج ابن ماجه وابن خزيمة من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الْفِطْرَ، عَجِّلُوا الْفِطْرَ؛ فَإِنَّ الْيَهُودَ يُؤَخِّرُونَ"؛ (صحيح الجامع:7695).
وأخرج الإمام أحمد وأبو داود والترمذي من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لا يزالُ الدِّينُ ظاهرًا ما عجَّلَ النَّاسُ الفِطرَ لأنَّ اليَهودَ والنَّصارى يؤخِّرونَ"؛ (صحيح الترغيب والترهيب:1075) (صحيح الجامع:7689) (صحيح أبي داود: 2353).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: "وهذا نص في أن ظهور الدين الحاصل بتعجيل الفطر لأجل مخالفة اليهود والنصارى، وإذا كانت مخالفتهم سببًا لظهور الدين، فإنما المقصود بإرسال الرسل أن يظهر دين الله على الدين كله، فتكون نفس مخالفتهم من أكبر مقاصد البعثة"؛ اهـ.
قال المناوي رحمه الله في "فيض القدير، 6/ 450": "تعجيل الفطر فيه مخالفة أهل الكتاب في تأخيرهم إلى اشتباك النجوم، وفي ملتنا هذا شعار أهل البدع، فمن خالفهم واتبع السنة لم يزل بخير، فإن أخَّر غير معتقدٍ وجوبَ التأخير ولا ندبه، فلا خير فيه كما قال الطيبي - رحمه الله -: إن متابعة الرسول هو الطريق المستقيم، ومن تعوج عنها فقد ارتكب المعوج من الضلال ولو في العبادة".
وقال أيضًا - رحمه الله -: "وتعجيل الفطر امتثالًا للسنة ومخالفة لأهل الكتاب، حيث يؤخرون الفطر إلى ظهور النجوم، وفيه إيماء إلى أن فساد الأمور يتعلق بتغير هذه السنة، وأن تأخير الفطر عَلَمٌ على فساد الأمور"؛ اهـ؛ (فيض القدير:6/ 395).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ