الفصل الخامس
بعد طريق سفر طويل دخلت العربة الكبيرة ذات الخيول إلي أماكن نفوذ ذلك القائد، حقول و اراضي شاسعة و ثروة حيوانية كبيرة متنوعة، منزل كبير لكنه لا يشبه منازل و قصور المدن، يظهر عليه الثراء و الخير الكثير لكن ليس به فن مثل رسم أو نحت أو غيره انه يشبه إلي حد كبير بيوت أهل الصعيد الأغنياء، تحيطه الأرض من كل ناحيه و الحيوانات ترعي و هناك أيضا الدجاج و الحمام و غيرها، ظلت كاريمان تنظر و كأنها في رحلة من رحلات شم النسيم التي كانت تتنزه فيها في حقول القري، رأت أيضا العاملون هنا وهناك فقد كان المكان أشبه بعزبة كبيرة مترامية الأطراف يملكها ذلك الرجل الذين هم بصدد مقابلته...
نزلا من العربة و هناك خادمين كانا في استقبالهما، أخذ واحد منهما العربة و اراح الخيل و الآخر أدخلهما إلي الداخل في قاعة مصممة تصميما عربيا بدويا بوسائد و مساند موضوعة ع الأرض و مكسوة بكسوة صوفية سميكة، جلسا و كاريمان تجول بعينيها ف المكان تتفقد كل ما به بينما والدها كان أهدأ قليلا لأنه كان هنا قبل تلك المرة ...
أقبل خادم جديد حاملا كوبين من الشاي للضيافة و عندما سألته كاريمان : متي سنقابل زعيمكم ؟؟ لم تتلقي رداً لأن الخادم انصرف دون كلمة واحدة ..
نظرت لوالدها سائلة ماذا يحدث هنا ؟ و لماذا لا يظهر أحد فأجاب منصور باشا : لا أعرف و لكننا حتما سنفهم .. المرة الماضية ظللت ساعتين في انتظاره و هذه المرة لا أعلم كم سيطول انتظارنا، ليس علينا سوي الصبر لأن ابننا لديهم ..
أومأت هي برأسها في ملل ثم أمسكت كوب الشاي لتشرب و بعد دقائق أقبل رجل يظهر عليه أنه بقامة عالية في هذا المكان، أشار لهما في هدوء ناحية السلم و قال : السيد خرج في عمل قصير و سيعود خلال ساعات و سوف نستضيفكم في غرفة في الطابق الثاني لحين عودته .. نظرا لبعضهما في ضيق و اتجها نحو السلم بهدوء ...
مع بداية نزول قرص الشمس و كأنما سيسبح في النيل حتي ينام و خروج الأشعة الحمراء كإنذار بقدوم الليل سمعا صوت طرق الباب ليتم اخبارهما أن السيد ينتظرهما في القاعة التي كانا بها صباحا
نزلا علي الفور يتقدمهما الخادم الذي أدخلهما و أغلق الباب، نظرت كاريمان بشغف إلي جانب ذلك الرجل و هي تخطو خطواتها لتصبح أمامه، رأت ملابسه الفضفاضة التي تصلح لتكون لشيخ قبيلة أو فارس من فرسان الخيول، أكتاف عريضة مرفوعة في شموخ و عمامة صغيرة بيضاء اللون، شخص ذو نفوذ و قوة جالس في ثبات ...
وقفت أمامه و نظرت إلي وجهه الأسمر الداكن الذي صاحبته الشمس حتي تركت علامتها عليه، فاجئها شبابه و صغر سنه فقد خالته أكبر من ذلك عمراً و أقل من ذلك وسامةً، عينان بنيتان واسعتان وواثقتان، أنف متوسطة الحجم و قسمات وجه عريضة تعطي انطباعاً بالشهامة لا باستغلال الفرص و لعب الألعاب !!!
لاحظ نظراتها المطولة له فتركها تتأمل ف الجو جديد عليها و الظرف أيضا غير معتاد بالنسبة لها فهي آتية لتحرر أسير من يد طاغية!!
ابتسم و قال : آسف علي التأخير و لكن كان لدي بعض الأشغال .. لعلنا نكون احسنا استضافتكم ؟!!
منصور باشا : نعم .. شكرا لك و لكننا نريد أن ننهي اتفاقنا و نعود بأقصي سرعة
القائد : نعم .. هل احضرتم ملكية البستان ؟
كاريمان بغيظ شديد : نعم ... انا صاحبة البستان و تلك هي حجته و لكن لماذا وضعت عينك علي بستاني أيها القائد .. الا يكفيك عدة آلاف من القطع النقدية ؟!!
القائد : أولا : أهلا بكِ يا أميرة.. ثانيا : اسمي ليس " القائد " بل السيد سالم الأسواني.. ثالثا و الأهم : نقودك أو بستانك ليس لكفايتي لأن لدي ما يكفيني و أكثر و لكنه تعويض مناسب عن فعلة أخيك الذي هجم ع قافلتي و تعدي علي ّ، النقود لن تفيدني فلدي منها ما يكفي و يفيض و بحثت في املاككم التي قال عنها أخيك فوجدت بستانا مختلفا سيضيف لي ثم انه مناسب لاقامتي في المنصورة إن جئت
كاريمان بغضب و تحد : و هل تخطط لمستقبلك و ما ينقصك بمجهودي و تعبي ؟!! هذا ليس عدلا هذا استغلال لضعفنا لأن عزيز محتجز عندك
منصور : هذا ليس ما تقصده كاريمان .. هي فقط متعلقة بذلك البستان
سالم : أنتِ محقة يا أميرة و في النهاية هو خطأ أخيك و ليس خطأك و لكن هناك مقترح ... بيعي لي ذلك البستان ؟
كاريمان : أبيعه لك عنوة .. ماذا فرقت عن اخي الذي تحتجزه؟! انت تفعل فعلته الآن فلماذا تعيب عليه
سالم باقتناع : معكِ حق يا أميرة المنصورة ... سأطلق لكِ أخيك و لكن هناك شرط ؟
كاريمان بكبرياء : ما هو ؟
سالم : اريد ارضي التي حول البيت أن تصبح مثل بستانك بوروده و اشجاره و جماله ... قد أبهرني ما قيل عنه و اريدك أن تعتني لي بأرضي و لو بمقابل كما تريدين .. ما رأيك؟؟
كاريمان : كيف ؟!!! هذا يتطلب جهد ع الاقل عام كامل .. هل تطلب مني البقاء هنا ؟
سالم : ستبقين عزيزة و كريمة و سيكون لك كل ما تريدين .. كأنك في رحلة عمل طويلة
كاريمان : دعني بعض الوقت لأفكر
نظر لها والدها برفض مطلق : لا ... لا استطيع تركك هنا .. اتركي له البستان و هناك أراضي كثيرة لنا تخلقين منها ألف بستان
كاريمان : و لكنه بستاني الذي احبه .. دعني افكر يا أبي
سالم : فكري حتي المساء و لكن اعرفي شيئا واحدا .. إن رفضتي عرضي فلن أمسك أخيك بل سأطلقه لكنك ستبقين مدينة لي إلي أن توفي طلبي
كاريمان في حيرة : شكرا أيها السيد علي كرمك و لذا اتخذت قراري .. انا ضيفتك لمدة عام كامل و أتمني ألا أندم ..
سالم: لن تندمي و هذا وعد ....
اتفق الاثنين بينما وقف الاب مندهشا دون كلمة واحدة ...
ماذا ستعيش تلك الأميرة في بيت سالم الأسواني.... هذا ما ستحمله الصفحات القادمة ....
أغلق يوسف الكتاب و ألقي بظهره للخلف كمن تناول وجبة دسمة و أراد غفوة صغيرة بينما قام علاء ليحضر شيئا يأكله ليعاودا القراءة في وقت لاحق ...
الفصل السادس
عاد علاء من المطبخ حاملاً طاولة صغيرة وضع عليها عدد من الارغفة المحشوة بالجبن و علي جانبها كوبين من الشاي بالحليب، أيقظ يوسف من غفوته و بدآ يأكلان ثم قال
علاء : الراجل بتاع الجمال ده شكله عينه ع الأميرة ؟
يوسف : آه .. انا حاسس انها هتبقي قصة حب كبيرة
علاء : يعني هي أميرة و بنت حسب و نسب ف تسيب كل معارفها و الناس اللي من وسطها و هتحبه هو ؟؟
يوسف : و ليه لا ؟
علاء : و ليه آه
يوسف وضع اخر لقمة من الرغيف في فمه و رشف رشفه من الكوب ثم امسك بالكتاب مرة أخري ليبدأ الفصل الثاني الذي كان عنوانه " رسالة "
بدأ الفصل برسمة جميلة ل سالم الأسواني ممسكاً بعصاه في قوة و جأش، أظهرت الرسمة لطفاً من بين قسمات وجهه العريضة بالرغم من حدته إلا أنه رجل وسيم علي كل حال ...
أظهرت الأيام الأولي التي عاشتها كاريمان في بيته كم هو رجل كريم، لقد حقق لها كل ما أرادت بداية من إحضار وصيفتها بسمة ثم إعداد أغراضها و ترتيب جناحاً يروق لها، خصص لها عدد من العاملين و المزارعين ليساعدوها و ينفذوا تعليماتها فيما يخص البستان، أحضر طباخاً من بحري مصر ليعد لها الوجبات كما تحب ..
علمت من والدته أنه أرمل و أن زوجته الشابة توفيت فجأة بسبب مرض عضال قضي عليها سريعاً ..
ذات يوم اصطحبها معهم في رحلة نيلية و ظل يشرح لها عن طبيعة المكان، الجزر المحيطة و البحيرة و التماسيح و أشجار الموز و قص لها من مغامراته في الصيد و تجارة الجمال، كانت كاريمان مستمعة جيدة لكنها لم تكن تجاوبه كثيراً ففي الغالب كانت تومأ برأسها او تكتفي بابتسامة رقيقة ربما كانت تحاول استيعاب شخصيته أو تقاوم احساسها بمحاولاته للتقرب منها حتي حين قال
سالم : هل أحببتِ المكان هنا أم الجو حار بالنسبة لك ِ ؟
ابتسمت كاريمان و قالت : نعم هو حار لكن بيننا اتفاق يجب أن أتممه ...
سالم: دوماً تذكرينني أنك كأسيرة هنا فأنظر إلي يداي و كأنما امسك بهما قيودك !!
كاريمان : بل قيدني هنا كرمك و حسن معاملتك فوجب عليّ رد الجميل
سالم : و ان حاولنا وضع كل ذلك جانباً، ألم تألفي المكان و الموجودين به ؟ ألم تخلق الأيام هنا رابطاً بينك و بين المكان ؟؟
كاريمان : المكان جميل و صنع داخلي فارقا سيبقي بي دوماً لكنني اشتقت كثيراً لهناك
سالم : هناك .. في قصرك و وسط عائلتك .. أليس كذلك ؟
كاريمان : نعم .. إن لي هنا أكثر من شهرين و قد فعل بي الحنين فعلته اسرع مما توقعت
سالم : ألهذا الحد ؟؟ عندي اقتراح لك .. هل تذهبين في اجازة صغيرة إلي هناك ثم تعودين لتواصلين ما بدأتِ .. ما رأيك ؟؟
كاريمان و قد عمتها الفرحة : معقول ؟!!! أوافق جدا جدا جدا .. متي يمكنني الذهاب ؟؟
سالم : وقتما تريدين يا أميرة فليس هناك أهم من أن تزيلين شوقك و تقابلين أحبابك ثم تعودين لنا
كاريمان : أنت كريم جدا .. شكرا لك كثيراً
عادت كاريمان لقصرها فكأنما روحها عادت لها بعودتها لوالدها و بستانها و أماكنها التي اعتادت عليها، التقت باختها الكبري ثريا و بصديقتها فاتن و عندما قابلت عزيز شكرها كثيرا لتضحيتها و لكنه كان مستمرا في الشجار مع والده من اجل المال و النفقات كعادته ...
أعطاها سالم هدية قبل سفرها " قط صغير " أسمته لبيب لذكائه الشديد، اصطحبته معها في قصرها و اعتادت عليه كثيرا بل انها كلما نظرت اليه تذكرت عودتها المفترضة إلي هناك و التي أجلتها يوما بعد يوم فبالرغم من حسن معاملته الشديد لها و تحقيقه لكل رغباتها لكن رغبتها الداخلية كانت عدم العودة و لكن واجبها كان يحتم عليها أن تعود!!
لم يحدد لها يوما او ميعادا و قد استغلت ذلك اسوأ استغلال إلي أن وصلتها رسالة ذات صباح بخط يده مكتوباً فيها كلمة واحدة " اشتقنا ... "
التقطت فاتن الرسالة و ابتسمت و قالت لها
فاتن : هل تحول اتفاق الأرض إلي اتفاق آخر أم ماذا؟؟
كاريمان و هي تضحك : بالطبع لا ... إنه رجل لطيف و هذه مزحة ليس أكثر .. وجب عليا العودة في أسرع وقت فهناك اتفاق يجب أن انهيه
فاتن : و هذا رأيي أنا أيضاً .. هناك اتفاق سينتهي و آخر سيبدأ
كاريمان : لا تطيلي الأمر فليس هناك أكثر مما قلت
عادت كاريمان ووجدت سالم الأسواني في استقبالها بأعين مترقبة و روحاً شغوفة و قال
سالم : أشرقت الأنوار يا أميرة .. اشتاقت لكِ الديار
كاريمان : و انا اشتقت لها ... و لكم...